لم يسلم الركن الخامس من أركان الإسلام، وهو الحج، من آثار وتبعات جائحة مرض فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، التي أربكت جوانب الحياة كافة، وأدت إلى تعطيل الكثير من الأنشطة الإنسانية، وألحقت بالبشرية كلّها خسائر فادحة في الأرواح والاقتصاد، الذي لا يكاد يخلو أيٌّ من قطاعاته من هبوط حاد وتراجع قاسٍ في أدائه. سيؤذَّن هذا العام في الناس بالحج، لكنهم لن يأتوا من كلّ فج عميق؛ إذ سيقتصر حضور الشعيرة وأداؤها على عدد محدود من مواطني المملكة العربية السعودية والمقيمين فيها يقارب عشرة آلاف حاج أو أكثر قليلاً، ولن يكون لكبار السن وذوي الشيبة نصيب فيه كما جرت العادة؛ حيث كانت معظم الدول الإسلامية تمنحهم الأولوية في أداء الفريضة، بعد أن حددت التعليمات الجديدة سنَّ من سيُسمح لهم بالحج هذا العام بأقل من 65 عاماً؛ وذلك نتيجة الظرف الاستثنائي الذي يعيشه العالم، ومن ضمنه المنطقة العربية، بسبب استمرار تفشي الوباء، وعدم اكتشاف أي دواء فاعل لعلاجه أو لقاح للوقاية منه.
وجاء هذا القرار بعد مشاورات معمَّقة مع مختلف الجهات المعنية، سواء في الجانب الشرعي، ممثلاً بالعلماء والفقهاء وهيئات الفتوى، أو الجانب الصحي، ممثلاً بمنظمة الصحة العالمية، واقتصر حج هذا العام على أعداد محدودة جداً للراغبين في أداء المناسك من مختلف الجنسيات من الموجودين والمقيمين في المملكة بشكل آمن وصحي بما يحقق التباعد الاجتماعي؛ وذلك نتيجة لاستمرار الجائحة، وسهولة تفشي العدوى في التجمعات والحشود البشرية، وللحفاظ على الأمن الصحي العالمي. ويشكل هذا التخفيض الهائل في عدد الحجاج، الذي قارب في العامين السابقين 2.5 مليون حاج لكل عام.
وهذه ليست المرة الأولى التي يتأثر فيها موسم الحج نتيجة حوادث تاريخية، أو نوازل وكوارث طبيعية؛ إذ تذكر المصادر التاريخية أنه حدث أن توقف الموسم وعُلّق بشكل كامل مرات عدة؛ كان أبرزها وأشدها وطأة عندما أوقفه القرامطة سنة 317 هجرية، ومنعوا أداءه لمدَّة 40 عاماً، كما أوقِف الحج من العراق سنة 983 ميلادية بسبب الفتن والخلافات بين خلفاء بني العباس وخلفاء بني عبيد، وتوقفت رحلات الحج من مصر سنة 1213 هجرية في أثناء الحملة الفرنسية، ولم يحج أحد من أهل الحجاز سنة 1257 ميلادية، في حين تعطَّل الحج خلال السنوات من 1846 حتى 1883 ميلادية نتيجة تفشي وباء الكوليرا، الذي دفع الناس إلى الهروب من الحجاز. كما توقف الموسم في سنة 1099 ميلادية بسبب اختلاف السلاطين قبل سقوط القدس في يد الصليبيين بخمس سنوات.
وفي الأخير أجمعت الدول والمنظمات والهيئات الإسلامية على تأييد هذا القرار، وقالت إنه يحقق واحداً من أهم مقاصد الشريعة، وهو حفظ النفس البشرية، وتجنيبها الأذى أو ما يؤدي إلى التهلكة، ويوافق القاعدة الفقهية التي تقول “إن درء المفاسد أولى من جلب المنافع”؛ وهو ما التقت عليه آراء هيئة كبار العلماء، والمجلس الأعلى لرابطة العالم الإسلامي، ووزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية في دول العالم الإسلامي.