فـي صفوف القتال أنـا ألهب نـارا .. في أعالي الجبـال أنـا أدعـو البـدارا
..في معاني النضـال أنـا كنت المنـارا.. وتركت الرجال في جهادي حياري…
بهذه الكلمات وصف شاعر الثورة جهاد المرأة الجزائرية التي حملت السلاح بجانب الرجل، فأصبحت مثالا يُحتذى به في الكثير من بقاع العالم، حيث ذاع صيت بطولاتها ووصلت أخبار شجاعتها كل مكان، فأرعبت
المحتل الذي صار يحسب لحرائر الجزائر ألف حساب، فلم تكتفِ بالدور التقليدي للمرأة، بل تعدته لحمل السلاح والدفاع ليس فقط عن نفسها بل عن شعبها ووطنها ككل، فحُق لها أن تحجز لنفسها مكانا في التاريخ كيف لا وهي بنت الجزائر.
فتحت الثورة التحريرية أمام المرأة الجزائرية الباب واسعا للالتحاق بصفوفها، إيمانا منها بالدور الفعال الذي يمكن أن تلعبه في الكفاح المسلح، ومحاولة منها لتحصينها من الحرب النفسية التي سلطها العدو الفرنسي عليها، قصد عزلها عن حقيقة الوضع الذي يعيشه وطنها، والتأثير عليها ببعض الخدمات الاجتماعية، ومن تم ضرب الثورة من الداخل وتجفيف مخزونها من الرجال.
ولم تُفوت المرأة الجزائرية الفرصة التي منحت لها للوقوف في وجه العدو الفرنسي، على الرغم من مشاركتها الضمنية في الكفاح المسلح بصفتها الأم والزوجة والأخت و… فالتحقت بجيش وجبهة التحرير الوطني، مقتحمة المجالات المختلفة التي كانت الثورة في أمس الحاجة لها، فلعبت دورا رياديا، حيث جاهدت بمالها ونفسها، فكانت الفدائية والمسبلة والمناضلة وشملت تضحياتها كل المجالات
والميادين.
من لالة نسومر إلى وريدة مداد بطولات لا يمحوها الزمن
منذ القرن 19 كانت المرأة الجزائرية مثالا للشجاعة والتضحية، فقد سجل التاريخ للجزائر نساء قدن المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي مثل “لالا فاطمة نسومر” التي قادت الثورة الشعبية في منطقة القبائل وتمكنت من تحقيق انتصارات على الجيش الفرنسي، حيث ذاع صيتها في كل أرجاء الوطن واستطاعت أن تبث الرعب في أوساط الجيش الفرنسي خاصة بعد مشاركتها في أغلب المعارك وتحقيقها لانتصارات عديدة، ليمر الزمن ويعيد إحياء هذه البطولات بمثيلاتها من الجزائريات كحسيبة بن بوعلي ووريدة مداد وغيرهن من النسوة اللواتي قدمن مساعدات كبيرة خلال ثورة التحرير وكذا غيرهن من النساء اللواتي وقفن إلى جانب المقاومة الشعبية ودعمنها بالمؤن والعتاد والدعم المعنوي من أجل القضاء على الاستعمار وإفشال مخططاته.
.. من التضحية بالزوج والابن إلى التضحية بالنفس
كانت المرأة الجزائرية عنصرا أساسيا في الثورة الجزائرية، إذ وقفت إلى جانب الرجل في مسؤوليات سياسية وعسكرية وكانت سندا قويا للكفاح المسلح، وأبلت المرأة سواء في الريف الجزائري أو في المدينة البلاء الحسن من أجل خدمة الثورة، فساهمت على مختلف المستويات خاصة دورها العسكري الهام من خلال التجنيد، حيث ضحّت بزوجها وابنها ووالدها ودفعت بأعز الناس إلى قلبها إلى جيش التحرير الوطني وتحمّلت لوحدها مسؤولية الأسرة وتربية الأبناء، حيث شاركت في التجنيد عند اندلاع الثورة التحريرية بصفة غير مباشرة، غير أنه كان لها الفضل الكبير، حيث تشكلت النواة الأولى لأول تنظيم عسكري للثورة الجزائرية وكان المجند في جيش التحرير يعد في نظر المرأة الجزائرية رمزا للكرامة والبطولة والذي لا يلتحق بالثورة يوصف أحيانا بالجبان، لكن بعد سنة 1956 كانت مشاركة المرأة واضحة في جيش التحرير كمجاهدة تحمل السلاح، لكن هذه الأخيرة لم ترق في الرتب العسكرية بالرغم من مشاركتها الفعالة حتى في المعارك التي خاضها جيش التحرير ضد قوات العدو الفرنسي، إلى جانب هذا ساهمت المرأة الجزائرية في تموين الثورة التحريرية، حيث نجد الكثير من النساء تبرعن بما يملكن من أموال وحلي وحتى بمهورهن أحيانا لصالح الثورة الجزائرية، وقد تكلفت الكثير من النساء بمهمة جمع التبرعات لصالح الثورة وتقديمها للجان المختصة بالتمويل، فقد كان جيش التحرير يمون مباشرة من طرف الشعب، إذ كان يتم إطعام المجاهدين في الليل لدى سكان الأرياف خاصة وتحملت المرأة الريفية العبء الكبير في هذا المجال، فهي التي كانت تعد الطعام وتخيط الملابس وتعدّ المؤن التي لا تخضع للتلف بسهولة، كما ساهمت المرأة الجزائرية الريفية في إعداد مخابئ خاصة للمؤن كانت تنقل إليها الأغذية والألبسة، وكانت هذه المراكز قريبة من الدواوير والمداشر وكثيرا ما يتعرض سكان البوادي إلى الوشاية لدى السلطات الفرنسية مما ينجر عن ذلك حملات تفتيش أو قصف وتدمير للمداشر، وقد عملت المرأة الجزائرية كمسبلة، حيث أوكلت إليها مهمة تتمثل في إيصال المعلومات وتزويد المسؤولين بالأخبار والمشاركة في التموين بالمواد الغذائية والقيام بالحراسة ومراقبة تحركات قوافل العدو والإبلاغ عن الخونة وتحركات بعض ضباط وجنود الجيش الفرنسي لاسيما في المدن، وكان للفداء نصيب كذلك للمرأة الجزائرية، حيث كانت تضع القنابل بنفسها في المناطق المستهدفة وتنقل الذخيرة في المدن وأحيانا تتشبه بالمرأة الأوروبية في لباسها وشكلها من أجل تحقيق مهمة كلفتها بها الثورة.
أما من الجانب الصحي، فقد كانت المجاهدات تقمن بتقديم الإسعافات للمجاهدين الجرحى أو حتى للمدنيين ضحايا العدوان الفرنسي، وقد تعرضت الكثير من المجاهدات الجزائريات إلى الاعتقال والتعذيب من طرف القوات الفرنسية بسبب مشاركتهن في الثورة بصفة مباشرة وغير مباشرة على غرار المجاهدة “جميلة بوحيرد” التي ألقي عليها القبض في القصبة بالجزائر من طرف قوات المظليين التابعة للعدو الفرنسي، وقد مورست عليها كل أشكال التعذيب وخضعت لمحاكمة غير عادلة ولم يثن ذلك من عزيمتها الثورية وظلت صامدة في وجه آلة التعذيب، وقد لقيت محاكمة هذه البطلة ردود فعل قوية في الداخل والخارج وأشار الإعلام الخاص بالثورة أو حتى الإعلام الأوروبي إلى هذه البطلة وخرجت مظاهرات في العديد من الدول مستنكرة سياسة التعذيب الفرنسي مدعمة الثورة الجزائرية.
مداواة الجرحى وإسعاف المصابين… المهمة التي أنجزتها الجزائرية بأبسط الإمكانيات
لم تكن إمكانيات القطاع الصحِّي أيام الثورة التحريرية بأحسن حال من التجهيزات العسكرية التي توفَّرت لجيش التحرير الجزائري، فالبداية كانت صعبة والوسائل قليلة، لكن الهمَّة ناطحت السَّحاب… فحققت المعجزات في ثورة حار فيها الزمان، وكان للمرأة الجزائرية الدور الكبير في هذا القطاع، حيث قامت بأدوار مُركَّبة، من إسعاف الجرحى من المجاهدين والمدنيين، وتقديم الإرشادات والنصائح للنساء وحثَّتهن على النظافة وأرشدتهن إلى طرق الوقاية من الأمراض المختلفة.
لما أدركت قيادة الثورة التحريرية أهمية خدمات التمريض التي يمكن أن تقدِّمها المرأة الممرِّضة، بادرت بالاتِّصال بالممرِّضات اللواتي زاولن التكوين في المدارس الفرنسية أو في القواعد الخلفية في كل من تونس والمغرب، بغية الالتحاق بصفوف المجاهدين، وهذا قبل فتح مدارس التكوين الخاصة بالجبهة.
أسباب متعددة جعلت القادة يوجهون المرأة للتمريض
مع مطلع عام 1955م كانت عمليات التمريض تتم تلقائيا في مختلف المناطق وبوسائل بسيطة وتقليدية، ولكن مع اتساع رقعة الثورة وتزايد العمليات العسكرية، خصوصا بعد 20 أوت 1955م أصبح من الضروري التفكير في إنشاء المراكز الصحية وتدعيم السلك الطبي بالممرضين والممرضات والأطباء والطبيبات، فأقبلت الفتاة الجزائرية على هذا الميدان الحساس، كما وجهتها القيادة الثورية هذه الوجهة لجملة من الأسباب كطبيعة المرأة الملائمة للتمريض، إضافة لالتحاق عدد معتبر من الفتيات المتعلمات بالثورة التحريرية بعد إضراب 19 ماي 1956 مما وفر لقيادة جبهة وجيش التحرير الوطنيين الفرصة للتفكير في توجيه هؤلاء للتكوين في مجال التمريض، بحكم قدرتهم العلمية والمعرفية مقارنة بالملتحقات الأخريات، ناهيك عن ما يفرضه تواجد الفتيات وسط جيش التحرير من تحفظ، فتواجد فتيات في مقتبل العمر وعلى قدر من الجمال وسط جيش التحرير الوطني، يمكن أن يتسبب في حدوث مشاكل، مما جعل قيادة الثورة تصدر قرارا سياسيا بتسجيل الفتيات بصورة آلية كممرضات أو متربصات في مجال التمريض لسد النقص المسجل في هذا المجال، لاسيما وأن الاستعمار لجأ إلى وسيلة دنيئة لتشويه سمعة المرأة المجاهدة أخلاقيا قبل تشويهها جسديا، وذلك بأن أشاع أبشع الأوصاف عن المجاهدات، وفسرت الدعاية الاستعمارية تواجد النساء بين المجاهدين تفسيرات دنيئة منحطة.
أبناء نوفمبر .. رضعوا حب الوطن وعانقوا الحلم صغارا
لم يمنع الأطفال خلال الثورة المظفرة سنهم وبراءتهم من إدراك ما يجري ببلدهم ومعانقتهم لحلم الحرية.. فأبناء الجزائر رضعوا حب الوطن من صدور أمهاتهم واكتسبوا الشجاعة من عيون آبائهم، فصاروا بحق أبطال الجزائر.
وبشجاعة كبيرة وإرادة قوية وإيمان راسخ بغد أفضل، شارك أطفال الجزائر إبان الحقبة الاستعمارية كبار المجاهدين في كفاحهم الطويل ضد المستعمر الغاشم الذي استعمر البلاد واستغل خيراتها واضطهد شعبها، وكان الطفل الجزائري الذراع الأيمن في العديد من العمليات، حيث كان له الفضل في نقل الرسائل، إخفاء السلاح والتجسس على الفرق الاستعمارية المتنقلة بين الأحياء، وحتى الإبلاغ عن ”البياعين”.. ، هذه الأعمال التي ورغم بساطتها إلا أن وزنها خلال الحقبة الاستعمارية كان كبيرا وفعالا، وساهمت إلى حد كبير في إنجاح العديد من العمليات الفدائية.
الإيمان بالوطن مهّد الطريق وخلق الإرادة
نقل الرسائل… إخفاء الأسلحة… التجسس على الفرق الاستعمارية المتنقلة بين الأحياء، هي أعمال رغم بساطتها إلا أنها خلال الحقبة الاستعمارية كانت كبيرة وأسهمت إلى حد كبير في إنجاح العديد من العمليات الفدائية، كانت مهمات صعبة ألقيت على عاتق عمار ياسف، وأمثاله من الأطفال الذين أدركوا منذ صغرهم أهمية أن يكون لهم وطن مستقل فتخلوا عن أحلامهم و رسموا لأنفسهم طريقا واحدا ألا وهو مساعدة الفدائيين من أجل أن تحيا الجزائر ويعيشوا في استقلال وسلام، عهد كان يبدو كالحلم إلا أنه لم يكن مستحيلا … هم هكذا أطفال الجزائر الذين أدركوا منذ نعومة أظافرهم أن بلادهم مغتصبة وحريتهم مكبلة، وأن الوطن بحاجة لأبنائه، كما أدركوا أهمية أن يكون لديهم وطن مستقل لحياة أفضل ومستقبل زاهر، وأنه لا طعم للحياة والنجاح والوطن يحكمه الغير، فتخلوا عن أحلامهم ودراستهم ورسموا لأنفسهم طريقا واحدا لا وجود لغيره من أجل التنعم بالحرية والاستقلال الذي عرفوا أنه صعب ولكنهم لم يروه مستحيلا أبدا، فقرروا مساعدة الفدائيين من أجل أن تحيا الجزائر حرة ومستقلة وأن يعيشوا عهد الاستقلال، هذا العهد الذي كان يبدو كالحلم ، لكن تجسيده على أرض الواقع ممكن فقط بالتضحية والكفاح، وللطفل الجزائري دور في تحريك العمل الثوري لأنه، ورغم صغر سن الطفل الجزائري، فإنه كان شاهدا على فظاعة المرحلة والغبن والفقر الذي كان يعيشه أهله ومجتمعه في ظل الاستعمار الذي أفقده براءته مبكرا وحرمه نعمة التعليم والدراسة وعمد إلى إبعاده عن عناصر هويته وشخصيته الجزائرية.
عمار ياسف الشهيد الذي لم يتجاوز الـ 12 سنة من عمره
الشهيد عمر ياسف المعروف باسم عمر الصغير، ولد سنة 1945 بحي القصبة بالجزائر العاصمة، ودخل مدرسة بحي سوسطارة وانقطع عنها وعمره 11 سنة، وثق به المجاهدون لذكائه وشجاعته وتفانيه في حب الوطن رغم صغر سنه، وكلفوه بنقل الأسلحة والرسائل ومرافقة الشهيد العربي بن مهيدي في حي القصبة، وكان من مجاهدي حي القصبة العتيق، شارك مع رجال في سن والده في حمل الرسائل إلى المسؤولين، وكان حلقة وصل بين القائد العربي بن مهيدي وياسف سعدي وباقي الفدائيين، وشهد له الشهيد العربي بن مهيدي بحماسه الفياض وبإرادته الفولاذية، واستطاع بنباهة تخطّي كلّ الحواجز البوليسية ولم تتمكن السلطات الفرنسية من اكتشاف نشاطه إلى أن أستشهد رفقة حسيبة بن بوعلي وعلي لابوانت وحميد بوحميدي يوم 08 أكتوبر 1957 بعد نسف المنزل المختبئين فيه بحي القصبة.