كرة القدم الجزائرية …ملاحم خالدة

كرة القدم الجزائرية …ملاحم خالدة

لطالما أثبتت كرة القدم دورها الاجتماعي والسياسي في حشد الجماهير وراء قضايا عامة ومحورية، ولعبت أدوارا بارزة في تشكيل الهويات الوطنية وتوحيد الشعوب في لحظات التمزُّق أو الانحدار السياسي والاجتماعي.

ولا يختلف اثنان على أن النموذج الأبرز عربيا في تقاطع كرة القدم مع مكافحة الاستعمار وتوحيد صفوف الجماهير، بل وصقل الهوية الوطنية وهي قيد التشكُّل، كان من نصيب الجزائر.

لقد توهَّج دور كرة القدم في النضال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي حين تسلَّحت الثورة المجيدة بالكرة من ضمن أسلحة أخرى منها الشعر والسينما والأدب، إلى جانب الكفاح المُسلَّح بطبيعة الحال.

 

“مولودية الجزائر” وبداية الاستفزاز

انعكس هذا الانقسام على كرة القدم أيضا، إذ تعرَّضت النوادي الرياضية المُسلِمة في الجزائر لضغوطات عديدة من طرف السلطات الفرنسية، إما بالمنع أو سحب التراخيص، وإما بالقمع والاعتداء. ففي عام 1956 لعب نادي “مولودية الجزائر” مباراة ضد غريمه نادي “سان أوجن” (Saint Eugene) الفرنسي-الجزائري على ملعب “سان أوجن”، والمعروف اليوم بملعب “عُمر حمَّادي” ببلدية “بولوغين” (وحمَّادي قائد سابق للفريق ومن ثوَّار الجزائر الذين أعدمتهم سُلطات الاستعمار). وبعد أن عدَّلت “مولودية الجزائر” النتيجة في آخر دقائق المباراة، وهَتفَت جماهير المولودية فرحا، رأى الفرنسيون في ذلك استفزازا لهم. فلم يكن تعديل النتيجة انتصارا رياضيا فحسب، بل انتصارا معنويا للجزائريين كذلك، لا سيما أن المباراة لُعِبَت أثناء حرب التحرير بين عامَيْ 1954-1962. ولذا، هاجمت الجماهير الأوروبية الحضور الجزائري، وتدخَّلت الشرطة فألقت القبض على العديد من أنصار المولودية وزجَّت بهم في السجون.

كانت الأندية المسلمة ظاهرة جديدة في البلد، إذ انحصرت كُرة القدم بين الفرنسيين وحدهم حتى نهاية القرن التاسع عشر، حيث تأسست أندية مثل نادي “أفراح وهران” (Club des Joyeusetés d_Oran) عام 1894، ونادي “حرية وهران” الرياضي (Club Athlétique Liberté d_Oran) عام 1897 من طرف المستوطنين الأوروبيين. وكانت هذه الأندية من أوائل أندية كرة القدم على الصعيد العربي والإفريقي، ثمَّ تلتها نوادٍ أخرى في شتى مدن الجزائر ذات الحضور الأوروبي، مثل الجزائر وقسنطينة وعنابة.

وانتظر الجزائريون حتى عشرينيات القرن العشرين لتأسيس نادٍ خاص بهم، وعُدَّ نادي “مولودية الجزائر” أول نادٍ جزائري مُسلِم لحظة تأسيسه في أوت 1921. وقد اجتمع حينها “عبد الرحمن عوف” رفقة أصحابه في حي القصبة، وكان الهدف من الاجتماع تأسيس أول نادي كرة قدم مُسلِم في الجزائر. واقترح الحاضرون للاجتماع أسماء عديدة للنادي، على غرار البرق الرياضي الجزائري، والهلال الجزائري، والنجم الرياضي، والشبيبة الرياضية، وقد وجدوا صعوبة في اختيار الاسم المناسب، وفي لحظة لم يتوقَّعها أحد صعد صوت من داخل المقهى من شخص مجهول مُناديا “مولودية” نسبة إلى المولد النبوي الشريف الموافق لذلك اليوم، وهي التسمية التي لاقت تجاوبَ هؤلاء الشبان، فاتُّفِقَ عليها اسما للفريق، وبعدها اختيرت ألوان العلم الوطني ألوانا رسمية للفريق.

 

صعود الحركة الوطنية.. والكرة الوطنية أيضا

ساهمت نشأة نادي “مولودية الجزائر” في نمو الحركة الوطنية داخل الدوائر الرياضية، وتعزيز الهوية المُسلِمة التي طالما حاربتها السلطات الفرنسية منذ بدء الاحتلال. وتزامن تأسيس الأندية الجزائرية في العشرينيات، مثل “النادي الرياضي القسنطيني”، و”الاتحاد الرياضي الإسلامي لوهران”، و”اتحاد الجزائر”، وغيرها من الأندية المسلمة حديثة النشأة، مع تأسيس حزب “نجم شمال إفريقيا” برئاسة “مصالي الحاج” سنة 1926، وهو أول حركة سياسية مُنظَّمة دعت إلى الاستقلال الكامل للجزائر.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ومجازر 8 ماي 1945 التي ارتكبتها السلطات الاستعمارية في الجزائر، وقُتل أثناءها أكثر من 45 ألف جزائري في أيام قليلة، خرج الجزائريون مطالبين بالاستقلال، وتصاعد الضغط على مدار سنوات إلى أن أعلنت جبهة التحرير الوطني اندلاع ثورة التحرير الكبرى في 1 نوفمبر 1954. وقد أوقفت الأندية الجزائرية المُسلِمة حينئذ جميع أنشطتها، وانضم العديد من لاعبيها إلى جيش التحرير، فحملوا البنادق وسلكوا سبيل الكفاح المُسلَّح. أما على الضفة الأخرى من المتوسِّط، فأدَّى لاعبو كرة القدم الجزائريون بفرنسا دورهم الوطني بطريقة مختلفة. فقد نجحت فرنسا طيلة الحقبة الاستعمارية في الاستفادة من المواهب الكروية الجزائرية وضمَّتها إلى أندية الدوري الفرنسي. واستمرت هذه الحال حتى قرَّر “محمد بومرزاق” اللاعب المحترف هناك أن يتواصل مع قادة جبهة التحرير بهدف تشكيل فريق وطني يُمثِّل الجزائر دوليَّا عُرِف لاحقا بـ “فريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم”.

 

فريق جبهة التحرير…الفرار الثوري ونموذج للتضحية من أجل الجزائر

في كأس العالم سنة 1958 بالسويد، الذي خسرت فرنسا مباراته النهائية أمام البرازيل، استدعى المدرب الفرنسي “بول نيكولا” أربعة لاعبين جزائريين إلى تشكيلة المنتخب الفرنسي قبل البطولة، وهُم “رشيد مخلوفي”، الهدَّاف التاريخي وأسطورة نادي “سانت إتيان”، و”مصطفى زيتوني” مدافع نادي “موناكو”، و”محمد معوش” مهاجم نادي “رَيمس”، و”عبد العزيز بن تيفور” مهاجم نادي “موناكو”. ولكن قبل شهرين فقط من انطلاق المنافسات، فرَّ اللاعبون الأربعة ومعهم 30 محترفا جزائريا في الدوري الفرنسي الأول، واتجهوا جميعهم إلى تونس. وقد تواصلت جبهة التحرير الوطني مع هؤلاء اللاعبين بالتنسيق مع “محمد بومرزاق”، وأقنعتهم بفكرة تشكيل فريق يُمثِّل الجزائر في المحافل الدولية ويساند قضيتها عالميا. وكانت خلايا جبهة التحرير منتشرة في فرنسا آنذاك، ونظَّمت هروب جميع اللاعبين من فرنسا عبر الحدود السويسرية والإيطالية إلى تونس. واستطاعت السلطات الفرنسية القبض على لاعبَين اثنَين وهما يحاولان الهروب، هما “حسان شاربي” و”محمد معوش”، حيث سُجِنا بعدئذ سنة كاملة.

كان “رشيد مخلوفي” ابن مدينة سطيف إحدى أبرز المواهب الصاعدة في فرنسا وأوروبا حينذاك، وكان من المفترض أن يقود الهجوم الفرنسي في كأس العالم 1958 وعُمره 22 عاما فقط، بيد أن مخلوفي قرَّر الالتحاق بالثورة مُضَحيا بمستقبله الكروي في أوروبا قائلا: “لم أتردَّد لحظة واحدة في تلبية النداء، فلم يكُن أغلب الفرنسيين على علم بما يجري في الجزائر، ولكن بعدما التحقنا بجبهة التحرير تبيَّنت لهم الحقيقة”. وقد تصدَّر فريق جبهة التحرير الصحف الفرنسية والعالمية، وسرعان ما قدَّم الاتحاد الفرنسي لكرة القدم شكوى لمنع هؤلاء الجزائريين من اللعب في أي فريق، ومنع فريق جبهة التحرير من المشاركة في أي بطولة دولية، وهو ما حصل بالفعل، إذ هدَّد الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا” كل الدول التي ستستقبل فريق جبهة التحرير الجزائرية، غير أن هذا الوعيد لم يمنع الدول الجارة والحليفة من استقبال منتخب الثوار.

وكانت جبهة التحرير تبحث عن إنشاء تنظيمات جديدة تابعة لها بعد ميلاد الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين والاتحاد العام للعمال الجزائريين ورأت ضرورة ملحة في إيجاد هيكل رياضي يحمل اسمها يكون سفيرا لها في المحافل الدولية، لما للرياضة من شعبية كبيرة وخاصة كرة القدم مقررة تأسيس فريق مكون من اللاعبين الناشطين في البطولة الفرنسية.

رفاق مخلوفي توجهوا سرا إلى تونس عن طريق الدول المجاورة للتراب الفرنسي وكان قرارهم بمثابة ضربة موجعة للشرطة الفرنسية التي لم تتمكن من اكتشاف الأمر إلا بعد التحاق النواة الأولى للفريق بالعاصمة التونسية، حيث رافق هذا “الفرار الثوري” صدى إعلامي كبير على المستوى العالمي لا سيما وأن عشاق الساحرة المستديرة كانوا يتأهبون لمعايشة أضخم حدث كروي والمتمثل في مونديال السويد عام 1958، حيث كان أحد أهم أطرافه المنتخب الفرنسي الذي دعم صفوفه في آخر لحظة باللاعبين الجزائريين رشيد مخلوفي ومصطفى زيتوني قبل أن يقرر هذان الأخيران الالتحاق بالثورة وشكلت هذه العملية صفعة حقيقية للاستعمار الفرنسي الذي حاول بشتى الطرق والوسائل عرقلة مهمة الفريق، حيث طلب من الفيفا معاقبة البلدان التي تستقبل فريق “الأفلان” وتسليط عقوبات صارمة قد تصل إلى حد الطرد من الهيئة الدولية.

ولعب فريق جبهة التحرير الوطني ما يفوق التسعين مباراة منذ تأسيسه إلى أن استقلَّت الجزائر عام 1962، واعتُمِد فريقُها الوطني رسميا من طرف الفيفا عام 1963. وقد رجع لاعبو فريق جبهة التحرير الوطني إلى اللعب في الأندية المختلفة. واستفادت الكرة الجزائرية من لاعبي فريق جبهة التحرير حتى بعد اعتزالهم، فكان اللاعب “رشيد مخلوفي” عضوا بالطاقم التدريبي الذي قاد المنتخب الوطني للمشاركة في كأس العالم عام 1982 في إسبانيا، وفازت الجزائر على ألمانيا الغربية 2-1 في تلك البطولة، ثمَّ حازت الجزائر أول لقب إفريقي عام 1990 تحت قيادة المدرب “عبد الحميد كرمالي”، الذي كان لاعبا في فريق جبهة التحرير أيضا ومن قبله في نادي “أوليمبيك ليون” الفرنسي.

ص/ب