في رِحَابِ هذَا الوُجودِ الهَادِرِ بالحَركَةِ، حيْثُ تدُورُ عجَلةُ الأيّاَمِ والأَعْوامِ ،تَلْتَهِمُ أعْمارَنا وتخْطِفُ زهرَاتِ شبَابِنا، يمْضِي بنَا سَريعاً كنْزٌ لا يُقدَّرُ بثمنٍ، وعَطَاءٌ إلهيٌّ فريدٌ، ألاَ وهُوَ الوَقتُ. إنه الشُّرْياَنُ الذِي يَمدُّنَا باِلحيَاةِ، والمجَالُ الحيَوِيُّ الذِي نُنْجِزُ فيهِ الأَعْمالَ أوْ تَضيعُ فيهِ الأعْمَارُ، والمنْحَةُ الإلهيَّةُ التِي تُوهَبُ لكُلِّ حَيٍّ ليَنْجَحَ في تجْربةِ الحيَاةِ الفَريدَةِ. وفي المَقابلِ، يتَربَّصُ بهَا شبَحٌ أسْودُ مرْعِبٌ، لا يَزَالُ مُتَوثِّباً لِيذْهَبَ ببرَكَتِها ويُبْطِلَ فَاعِليَّتها ؛ ألاَ وهُوَ الفَراغُ!، ذَلكَ العَدوُّ الخفِيُّ الذِي يَفْتِكُ بالأَوقَاتِ ويُهدِرُ الطَّاقاتِ. ومنْ هَهُنا ؛ أوْلىَ الإسْلامُ عِنايةً بَالغةً للوَقتِ، وجَعلهُ مَنَاطاً لِكَثيرٍ منَ التكاليفَ الشَّرعيَّةِ وأسَاساً لِوعْيِ الإنسَانِ بدُنياهُ وآخرتِهِ؛ ففي نصُوصِهِ الشّريفةِ، تتَجَلَّى قيمَةُ الزَّمنِ؛ فأَركانُ الإسلامِ الأَربعَةُ مُوَقَّتَةٌ بمَواقيتَ زَمنيّةٍ معْلومَةٍ لا تعْدُوهَا، فالصلاةُ تُقامُ لوقتِْها، والزكَاةُ تُؤدَّى لِحَولِها، والحجُّ أَشهرٌ مَعلومَاتٌ، وأشْهُرٌ حرُمٌ وأعْيَادٌ ومَواسِمُ توكِّدُ هذه الأَهمِّيَّةَ القُصْوى للزَّمنِ في الإِسلامِ. ونُصُوصُ القرآنِ الكريمِ والسُّنَّةِ الشّريفةِ حَافلةٌ بمَا يَبْنِي في وعْيِ المسلمِ تَعظيِمَ قيمَةِ الوقْتِ وخُطُورَةَ تبدِيدِه وإهدَارِه، فيُقْسِمُ تعالَى بالزَّمنِ المُطْلقِ كمَا في قوله تعالى: “وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ” العصر: 1-2. ويُقْسِمُ بالنّهَارِ ؛والصّبح ِ؛ والضُّحَى؛ والليْلِ، واللهُ تعَالى لَا يُقْسِمُ إلاَّ بعَظِيمٍ، إِلفَاتاً إلى الأهمِّيَّة العُظْمَى للوَقتِ وأَجْزائِه، فالعصْرُ هوَ مُطْلقُ الزَّمنِ، وهُو عُمْرُ الإنسَانِ ورَأْسُ مالِ حيَاتِه وسَعْيِه، وهُو مَا يخْسَرُهُ المرءُ إنْ لمْ يُحسِنِ اسْتغْلالَه في الْتِزَامِ الحقِّ والعَملِ الصّالحِ. وفي سُنَّةِ المصْطفَى ﷺ نُصُوصٌ وتوجِيهَاتٌ نبويَّةٌ غَاليةٌ تحُثُّ علىَ اغْتنَامِ الأَوقاتِ، وتُحذِّرُ منْ تضيِيعِها فِيمَا لا يَنْفعُ، يقولُ ﷺ فيما روَاهُ البخاريُّ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رضِيَ الله عَنْهما: “نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ”. والفَراغُ في الحَديثِ كِنايةٌ عنْ سَعَةِ الوقتِ وخُلُوِّه من المشَاغِلِ؛ فَبقَدْرِ مَا هُو نِعْمةٌ ومِنحَةٌ منَ اللهِ تعَالىَ ؛ بقَدْرِ مَا هوَ شرٌّ إذَا ضَاعَ دُون نَفْعٍ ؛فيُغْبَنُ صَاحبُه كمَا يُغبَنُ التَّاجرُ بِخسارةِ رأسِ مالِهِ إنْ هو لمْ يُحسِنْ إدَارتَه، وفي التَّوجِيهِ إلىَ حُسْنِ إدَارةِ الوقتِ والاِنْتِفاعِ منْ دَقائقِه يقُولُ ﷺ فيمَا رواهُ الترمِذِيُّ بسَندهِ عَن عَمرِو بنِ مَيمونٍ : “اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ”. فهَذا الحَديثُ الشَّريفُ يَرسُمُ خَريطَةَ طَريقٍ لحُسْنِ اسْتثْمارِ المَراحِلِ العُمْرِيَّةِ المخْتلفةِ ومَا يتخَلَّلُها منْ إمْكَاناتٍ ثَمينةٍ، فَكلُّ مَرحَلةٍ عُمْريَّةٍ فيها مِنَ القُوَّةِ والعَطَاءِ ما لَا يتَوفَّرُ في غيْرها، وأمَّا قولُه ﷺ: “فَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ وشَبَابَكَ قبْلَ هَرَمِكَ وحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ” فهُو محَلُّ الشّاهدِ في حَديثِنا، إذْ يبيِّنُ أنَّ الفراغَ والشبابَ والعُمُرَ فُرَصٌ ذَهبيَّةٌ تُغتنَمُ قبلَ أن تُنْهِكَ الإنسانَ مشاغلُ الحياةِ وتَدْهَمَهُ صُرُوفُ الزَّمانِ ؛ فيَضْعُفُ البَدَنُ وتقِلُّ فُرَصُ الإنْجازِ أو تُعدمَ بالموتِ والفواتِ .
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر