عِبادَ اللهِ، فإنَّ مِن أَعْظَمِ ما تَطْمَئِنُّ بِهِ قُلوبُ المُؤْمِنِينَ؛ وَتَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُ الصّالِحِينَ؛ الرِّضا عَنِ اللهِ تَعالى، وَالرِّضا مَرَدُّهُ إِلى يَقِينِ العَبْدِ أَنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللهِ، وَأَنَّهُ لَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ إِلَّا ما كَتَبَهُ اللهُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ مُنْذُ الأَزَلِ، وَأَنَّ ما قَدَّرَهُ اللهُ لَهُ أَوِ اخْتارَهُ لَهُ خَيْرٌ مِنِ اخْتِيارِ العَبْدِ لِنَفْسِهِ، فَإِذا عَلِمَ ذلِكَ وَأَيْقَنَ بِهِ اسْتَكانَتْ نَفْسُهُ اسْتِكانَةَ مُخْبِتٍ لِلهِ، وَحينَ ذاكَ يَجِدُ العَبْدُ حَلاوَةَ الإيمانِ، كَما أَخْبَرَ بِذلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قالَ: “ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دينًا، وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ نَبِيًّا”، وَقالَ أَيْضًا ﷺ: “ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُما، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كَما يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النّارِ”. لَقَدْ حَرَصَ رَسُولُنا الهادِي المُرَبِّي عَلى غَرْسِ هذِهِ المَعاني السّامِيَةِ في قُلوبِ النّاشِئَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَهَمِّيَّتَها في تَوْجيهِ المُسْلِمِ إِلى الطَّريقِ المُسْتَقيمِ في وَقْتٍ مُبَكِّرٍ مِن حَياتِهِ، وَلا أَدَلَّ عَلى ذلِكَ مِن تِلْكَ الوَصِيَّةِ العَظِيمَةِ وَهُوَ يُوصِي بِها ابْنَ عَمِّهِ عَبْدَ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ، وَهُوَ فَتًى يافِعٌ لَمْ يَبْلُغِ الحُلُمَ، وَهِيَ وَصِيَّةٌ صالِحَةٌ لِلْأُمَّةِ جَمْعاءَ؛ فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ. عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ‘ يَوْمًا، فَقَالَ: “يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ”. وفي رواية غَيْرِ التِّرْمِذِيّ: “احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ” وفي رواية: “قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا”. أيها المسلمون، لا بد أن نؤمن إيمانًا جازمًا، أن ما يصيب العبد في دنياه مما ينفعه أو يضره كله مقدَّر عليه، ولا يصيب العبد إلا ما كُتب له من مقادير ذلك في الكتاب السابق، وأنه لو اجتهد الناس جميعًا على أن ينفعوا العبد بشيء أو يضروه بشيء، ولم يُكتَبْ له في سابق علم الله تعالى، فإنهم لن ينفعوه ولن يضروه إلا بما كتبه الله وقدَّره ؛ قال الله تعالى: “قُل لَّنْ يُّصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ اَ۬للَّهُ لَنَا هُوَ مَوْل۪يٰنَاۖ وَعَلَي اَ۬للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون “. أيها المؤمنون، إنَّ أمر الإيمانِ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ إذَا تَحقَّقَ لَدَى المُسْلِمِ على الوجْهِ المَطْلُوبِ، كَانَ سببًا مُبَاشِراً في سعادته؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ”.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر