في السّنوات الأخيرة، ظهرت فئة من الشباب، تتراوح أعمارهم بين العشرين والخامسة والثلاثين، تعمل على توفير رأس مال تسافر به إلى مدن معيّنة في العالم، لتعود منها بسلع تبيعها في الجزائر، مثل الألبسة والهواتف النّقالة والسّاعات والذّهب والعطور وأدوات الزّينة.
تأتي دبي وإسطنبول وهونغ كونغ في صدارة المدن المقصودة، لاعتبارات يلخصها الشباب الجزائريون الذين يمارسون هذه الأعمال، في “انخفاض تكاليف الطيران والفنادق، وخفّة الإجراءات الجمركية وسهولة الحصول على التأشيرة، وسمعة السّلع القادمة من هذه المناطق في أوساط الجزائريين، إلى جانب كونها مدنًا سياحية.
حركية لا تنتهي
يكفي الوقوف لمدّة ربع ساعة في مطار هواري بومدين الدّولي في الجزائر العاصمة، في أيّ يوم من أيّام الأسبوع، لإدراك أنّ هذه الحركة باتت تستقطب عددًا معتبرًا من الشّباب الجزائريين. يقول محمد من ولاية سطيف التي تعد من أكثر المدن الجزائرية استقبالًا لهذه السّلع: “لم يعد المطار الجزائري يسفّر إلا المعتمرين و”تجار الشّنطة”، وذلك أن حركتنا لا تنقطع على مدار العام، فقد بتنا نتوفّر على خبرة في معرفة السّلع المطلوبة هنا، والتكيّف مع متطلبات الفصول، كما بتنا نملك علاقاتٍ تحكمها الثقة مع المموّنين في الدّول المقصودة، وقد باتت معرفتنا باللغات المستعملة هناك عامل نجاح إضافيًا”.
من جهته يقول بلال أحد الشباب الجزائريين الذين يمارسون هذه الأعمال:”غادرت الدّراسة مبكرًا، لأسباب تتعلّق بإعالة أسرتي، فاشتغلت في البناء ثمّ في التحميل ثمّ في بيع الخردوات، وكلّها أشغال متعبة وذات مردود مادي ضعيف، فما كان منّي إلا أن طلبت من والدتي أن تسمح لي ببيع حليها الذهبية، على أن أعوّضها لها لاحقًا، وسافرت إلى إسطنبول التي أدهشتني بجمالها وفرصها التجارية، عدت محمّلاً بألبسة رجالية مختلفة، يقول بلال، واستأجرت مؤقتًا محلًّا صغيرًا في مدينة بودواو بالعاصمة، فلم تمض ثلاثة أيام حتى بعت كلّ سلعتي، ما عدا قطعًا محدودة، وبعد أن خصمت تكاليف الطائرة والفندق والأكل وإيجار المحلّ، وجدتني قد ربحت 700 دولار أمريكي. يواصل: “فصرت أفعل ذلك مرّتين في الشّهر، علمًا أنّ مبلغ 1400 دولار في الجزائر شهريًا، يعادل راتب معلّم ستّ مرات، وهو ما أهلني لأن أشتري سيارة وأفتح محلّا خلال سنتين فقط”.
وللشابات نصيب من هذه التجارة
غالباً ما نسمع أنّ معظم تجار الشنطة هم من الشبان الذين يعرفون كيف تدار التجارة في الجزائر، ومنهم من صار بالفعل محترفاً في شراء بعض المستلزمات الخفيفة التي تلقى رواجاً واسع النظير، وبعضهم بات اليوم يدير محلات بأكملها في الأسواق الجزائرية، خصوصاً في منطقة باب الزوار والحميز وبلكور، وحتى في الأحياء الراقية، لا سيما محلات بيع مستحضرات التجميل والعطور التي تستقطب النساء أكثر، لكنّ للشبان منافساً بارزاً الآن. فالفتيات دخلن إلى الساحة، وتفوقن في مسارات تأخذهن إلى وجهات عالمية عديدة، فاحترفن تجارة الشنطة، التي باتت تدرّ أموالاً طائلة عليهن.
تقول سعدية من ولاية وهران وهي في مطار الجزائر الدولي، إنّها تعمل تاجرة شنطة، منذ سبع سنوات، فتسافر إلى الخارج وتأتي بالسلع المتنوعة لتبيعها في الوطن، تشير إلى أنّ هذه المهنة أراحتها، وكانت بمثابة حظ جيد لها، بعدما تنقلت كثيراً من وظيفة إلى أخرى بعقود محدودة ومن دون ضمان اجتماعي، منذ تخرجها من كلية الاقتصاد في وهران. تعلق: “أنهكت صحتي مقابل أجر شهري زهيد تبدده مصاريف النقل وطعام الغذاء. التجارة كسب حلال ومتعة أيضاً وقد منحتني الثقة وأتاحت لي مساعدة عائلتي”. تتابع: “تعلمت كثيراً في السفر، بل إنّي آخذ من كلّ رحلة درساً أستفيد منه في الرحلة التالية، بداية من طريقة الشراء في البلد الأجنبي إلى طريقة التسويق في الجزائر”.
في البداية، كانت نعيمة تقتني بعض الهدايا لأفراد الأسرة، ولم تخطر على بالها فكرة الشراء والبيع، حتى تعرفت إلى إحدى الفتيات التي أشارت إليها بأن تحترف التجارة، وتجرّب حظها ببيع أشياء بسيطة في الجزائر، سواء لأفراد العائلة أو الجيران أو في محلات الحلاقة، وهكذا تعرفت إلى كثيرات ممن دخلن عالم هذه الحِرفة، خصوصاً المترددات على تركيا. تقول: “في إسطنبول تستأجر جزائريات يحترفن تجارة الشنطة بيوتاً طوال مدة إقامتهن بأسعار منخفضة، وقد تعلمت منهن أسماء الشوارع والمناطق التي تتوفر على السلع معقولة الأسعار لاقتناء الأكثر رواجاً والأقل سعراً”. عقدت سعدية عدة صداقات مع فتيات أخريات تعلمت منهن كيف يمكنها أن تقتني “سلعة يمكن ترويجها في الجزائر بحسب الفصول والمناطق وما تطلبه النساء وما يطلبه الرجال، وكذلك الأطفال، وما يلبي أذواق الجميع”.
…خطوة لتحسين المستوى
وبهدف تحسين مستواها المعيشي، اختارت نسيمة، وهي طالبة جامعية في إحدى جامعات الشرق الجزائري، أن تجرّب حظها في التجارة، فهي أكبر أشقائها من أبيها، بعدما توفيت والدتها. وقد ذاقت المرّ، كما تقول، حتى نجحت في الثانوية العامة: “كانت معجزة غير متوقعة، إذ اشتغلت في عدة وظائف بسيطة لأتمكن من جمع المال لإتمام دراستي، فضلاً عن مواجهة صعوبات الحياة، لكنّي وجدت عملاً في الصيف، بائعة في محل للملابس النسائية، فتفطنت لفكرة أن أبدأ رحلة التجارة من الجزائر نحو المغرب”. بدأت هذه الفتاة ذات الثالثة والعشرين من عمرها الرحلة في عالم تجارة الشنطة بعدما زارت مدينة الدار البيضاء المغربية، حيث خاضت أولى تجاربها التي أخذتها نحو الدخل الوفير، بالرغم من كلّ العقبات التي واجهتها، إذ صارت تسافر شهرياً إلى المغرب لاقتناء فساتين الأعراس التي يتزايد عليها الطلب وبعض الإكسسوارات والعطور والملابس النسائية. وباتت تبيعها في محلات الحلاقة النسائية والحمامات. تشدد على أنّها احترفت التجارة وتمكنت من شراء محل تعرض فيه سلعها وتأخذ الطلبيات فيه أيضاً من عدة مناطق في الجزائر.
صعوبات بالجملة
لم يكن الأمر سهلاً بالنسبة لكثيرات في هذا المجال، إذ واجهن صعوبات بداية من “رفض العائلة”، بحسب فاطمة (34 عاماً). تقول أنّها في بداياتها قبل تسع سنوات واجهت أشقاءها ووالدها الذي عارض فكرة السفر في حدّ ذاتها، لكنّها تحدتهم جميعاً ما دامت “تجارة بلا خسارة”، وإن كانت محفوفة بالمخاطر، خصوصاً في مجتمع محافظ ينظر إلى الفتاة “بعين ناقصة” كما تقول. كذلك، واجهت صعوبات في المطار من الجمارك والتفتيش، فضلاً عن طمع البعض في استغلالها، وحاول غيرهم استدراجها إلى تجارة الممنوعات.
ل.ب