-
التزام رئاسي يضع العدالة في قلب مشروع الإصلاح المؤسسي للدولة
-
قانون أساسي جديد يعيد الإعتبار للقاضي ويعزز ثقافة النزاهة والمسؤولية
حين أعلن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون أن “القانون الأساسي للقضاء سيصدر قبل نهاية السنة الجارية”، كان ذلك إشارة سياسية وقانونية عميقة المعنى، تعيد ترتيب أولويات الدولة في مسار إصلاح منظومة العدالة.
الكلمة هذه المرة لم تُوجّه إلى القضاة وحدهم، بل إلى المجتمع بأسره الذي يترقّب قيام “عدالة مؤسساتية مستقلة” تكون الضامن الأول للحقوق والحريات. فإصدار هذا القانون يمثل خطوة مفصلية نحو تأسيس بيئة قانونية تُمكّن القضاء من أداء رسالته بعيدا عن كل أشكال الضغط والتأثير، في إطار رؤية شاملة لبناء دولة الحق والقانون التي تُعيد الثقة بين المواطن ومؤسساته.
وعد يتحول إلى محطة مفصلية في مسار الإصلاح القضائي
منذ بداية العهدة الرئاسية للرئيس عبد المجيد تبون، ظل ملف إصلاح العدالة في صدارة الأولويات، باعتباره الركيزة الأساسية لبناء دولة مؤسسات قوية لا تخضع إلا للقانون. لذلك، جاء الإعلان عن صدور “القانون الأساسي للقضاء قبل نهاية السنة الجارية” كرسالة واضحة بأن الإصلاحات الكبرى لم تعد حبيسة الوعود، ودخلت مرحلة التنفيذ الملموس. تحديد سقف زمني لإصدار هذا القانون يعني أن الدولة انتقلت من مرحلة التخطيط إلى مرحلة الإنجاز، في وقت تحتاج فيه الجزائر إلى منظومة قضائية متجددة قادرة على مواكبة التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها البلاد.
هذا الالتزام الزمني يحمل في طياته أبعادا سياسية ومؤسساتية متداخلة، فهو من جهة تأكيد على “جدية الدولة في مرافقة مسار العدالة حتى نهايته”، ومن جهة أخرى تأكيد على أن السلطة التنفيذية تسعى لإعادة التوازن إلى العلاقة مع القضاء عبر توفير الأطر القانونية التي تضمن استقلاله. فالرئيس تبون حين تحدث عن القانون قدمه كمحطة في مسار وطني شامل يرمي إلى ترسيخ مبدأ “العدالة المستقلة” التي تُمارس مهامها في ظل احترام الدستور وسيادة القانون.
وما يزيد من أهمية هذا الإعلان أنه جاء في مناسبة رمزية هي افتتاح السنة القضائية الجديدة، حيث تمتزج الرمزية القانونية بالمضمون السياسي لتشكيل رسالة مزدوجة: الأولى للقضاة بأن الدولة ترافقهم في مسارهم المهني والتشريعي، والثانية للمواطن بأن العدالة في الجزائر تسير نحو مرحلة جديدة من الاستقلال والنزاهة. بهذا المعنى، يصبح الوعد الرئاسي بإصدار القانون عهدا مؤسساتيا يرسم خريطة طريق واضحة نحو قضاء أكثر شفافية وفعالية.
القانون الأساسي للقضاء… الإطار الذي طال انتظاره
ويُعدّ القانون الأساسي للقضاء أحد أهم النصوص التشريعية التي انتظرها رجال العدالة طويلا، ليس فقط لأنه ينظم المهنة من حيث الحقوق والواجبات، بل لأنه يمثل المرجع الذي يحدد طبيعة العلاقة بين القاضي والدولة من جهة، وبين القضاء والمجتمع من جهة أخرى. فالقاضي في النهاية سلطة دستورية تمارس وظيفتها باسم الشعب. ومن هنا، فإن صدور هذا القانون قبل نهاية السنة يعني وضع لبنة أساسية في صرح دولة القانون، حيث يصبح النص القانوني أداة لحماية القاضي من التدخلات، وضمان استقلاله المهني، وتكريس عدالة نزيهة تعكس صورة الجزائر الجديدة التي وعد بها الرئيس.
القانون المنتظر يُفترض أن يحمل روح الإصلاح الذي تحدث عنه رئيس الجمهورية مرارا، وهي “إصلاح في العمق لا في الشكل”، إذ يتجاوز منطق التعديل الجزئي نحو إعادة هيكلة كاملة لمنظومة العدالة. فالقاضي اليوم يواجه تحديات معقدة تتعلق بسرعة الفصل في القضايا، ورقمنة الإجراءات، وتنوع الملفات المرتبطة بالاقتصاد والرقابة والفساد، ما يجعل الحاجة إلى قانون حديث وشامل أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. ومن هذا المنطلق، فإن القانون الأساسي الجديد يرتقب أن يعيد رسم المسار المهني للقضاة، من التعيين إلى الترقية، مرورا بالتكوين المستمر والتقييم الموضوعي، في إطار يوازن بين الاستقلالية والمساءلة.
ومع أن إصدار هذا القانون يمثل خطوة إصلاحية على المستوى المؤسسي، إلا أنه يحمل أيضا بعدا نفسيا ومعنويا كبيرا داخل أسرة القضاء. فهو يعيد للقضاة شعورهم بالاعتبار والمكانة داخل هرم الدولة، ويمنحهم الإطار القانوني الذي يسمح لهم بأداء مهامهم في طمأنينة واستقرار. وهنا تتضح العلاقة العضوية بين النص القانوني والفاعلية الميدانية، لأن قاضيا يشعر بالأمان الوظيفي والمهني هو أقدر على ممارسة العدالة بضمير وموضوعية. ومع اقتراب لحظة صدور القانون، تتجه الأنظار إلى مضمونه وتفاصيله، التي يُنتظر أن تُترجم توجيهات الرئيس حول “التكفل الأمثل بموظفي قطاع العدالة”.
تحسين ظروف القضاة… شرط أساسي لعدالة نزيهة
وحين قال الرئيس تبون إن “القاضي يجب أن يُكفَل في ضروريات حياته حتى يتفرغ كليا لعمله”، كان يضع إصبعه على جوهر المعادلة التي تفصل بين العدالة كقيمة والعدالة كممارسة. فالقاضي الذي يفتقد إلى الاستقرار المادي والمهني لا يمكن أن يُنتظر منه أن يُصدر أحكامًا في استقلال تام، لأن الاستقلال لا يتحقق بالنصوص وحدها، بل بضمان بيئة مهنية تحميه من الهشاشة ومن الضغوط غير المباشرة. لذلك، فإن توجيهات رئيس الجمهورية بشأن تحسين ظروف القضاة جزء من استراتيجية دولة تريد أن تجعل من العدالة سلطة قائمة بذاتها، لا جهازا تابعا ولا إدارة خاضعة.
إن التكفل المادي والمعنوي بأسرة القضاء يُعدّ ركيزة أساسية لترسيخ نزاهة العدالة. فحين تُوفَّر للقاضي كل أدوات العمل، من ظروف اجتماعية مستقرة إلى تكوين مستمر وإمكانيات لوجستية حديثة، يصبح أكثر استعدادا لتطبيق القانون بعدالة ودقة. والتجارب المقارنة تُثبت أن البلدان التي استثمرت في تحسين وضع القضاة كانت الأكثر نجاحا في بناء مؤسسات قضائية قوية وموثوقة. من هنا نفهم أن حديث الرئيس عن تحسين ظروف القضاة لا ينفصل عن رؤيته العامة لتجديد الدولة، لأنه لا يمكن بناء جزائر جديدة بقضاء يعيش في ظروف قديمة. فالتنمية القانونية، مثلها مثل التنمية الاقتصادية، تبدأ من الإنسان القادر على أداء مهامه في كرامة واطمئنان.
هذا التحول في النظرة إلى القاضي يعكس تطورا في فلسفة الحكم نفسها، من إدارة العدالة إلى تمكين العدالة. فالدولة التي تضع تحسين أوضاع القضاة ضمن أولوياتها، هي في الواقع تُحصّن استقلال القضاء من أي تأثير أو تبعية. إنها رسالة مزدوجة: للداخل بأن العدالة لن تكون أداة في يد أي طرف، وللخارج بأن الجزائر تبني مؤسساتها على أساس الكفاءة والاحترام المتبادل بين السلطات. ومع تعزيز هذا البعد الإنساني والمهني في إصلاح العدالة، يصبح الطريق ممهّدا نحو النقلة الأكبر: تحويل الإصلاح من نصوص وتشريعات إلى ممارسة واقعية تترجم مبادئ الاستقلال والنزاهة على أرض الواقع.
إصلاح القضاء… من النصوص إلى الممارسة
لقد أثبتت التجارب السابقة أن كتابة القوانين لا تكفي وحدها لإصلاح العدالة، فالنصوص مهما بلغت من الدقة تبقى حبرا على ورق ما لم تجد طريقها إلى التطبيق الفعلي داخل أروقة المحاكم. ومن هنا جاءت توجيهات رئيس الجمهورية لتؤكد أن المرحلة المقبلة يجب أن تكون مرحلة “تجسيد الإصلاح على الأرض”، لا الاكتفاء بإعلانه في الخطابات. فالقانون الأساسي للقضاء المنتظر، وإن كان يشكل الإطار التشريعي لتنظيم المهنة، إلا أن نجاحه الحقيقي سيُقاس بمدى انعكاسه على الممارسات اليومية للقضاة وعلى جودة الخدمة القضائية المقدمة للمواطن. إن الانتقال من النص إلى الفعل يتطلب منظومة تكوين متكاملة، تواكب التحولات القانونية والرقمية التي يعيشها العالم، وهو ما جعل الرئيس يؤكد على “مواصلة مساعي أخلقة العمل القضائي والارتقاء به إلى الجودة والفعالية”. فالقاضي الحديث يحتاج إلى أدوات تحليل وإدارة ملفات معقدة في الاقتصاد والبيئة والرقمنة. كما أن إصلاح العدالة لا ينفصل عن تطوير بنيتها التحتية، من رقمنة الإجراءات إلى توسيع صلاحيات النيابة العامة، بما يجعل الجهاز القضائي أكثر سرعة وشفافية في التعامل مع القضايا. إن هذه الممارسات هي التي تمنح القانون روحه الحقيقية وتحوله من قاعدة نظرية إلى ثقافة مؤسساتية.
ومن هذا المنظور، فإن القانون الأساسي الجديد سيكون امتحانا لقدرة الدولة على ترجمة وعودها في مجال الإصلاح إلى إنجازات ملموسة. فالمجتمع الذي يرى عدالته تتطور في الأداء والشفافية يستعيد ثقته تلقائيا في مؤسساته. وهنا تتجلى فلسفة الإصلاح التي تقوم على الدمج بين “الشرعية القانونية” و“الفعالية الميدانية”. فحين تعمل النصوص والقيم في انسجام، تولد عدالة حقيقية توازن بين الصرامة والإنصاف.
العدالة المستقلة… حجر الأساس في الجزائر الجديدة
ومنذ تولي الرئيس عبد المجيد تبون سدة الحكم، كانت فكرة “العدالة المستقلة” بمثابة البوصلة التي توجه مسار الإصلاحات السياسية والمؤسساتية في البلاد. فالحديث عن استقلال القضاء لا يقتصر على فصل السلطات من الناحية الدستورية، بل يمتد ليعني بناء مؤسسة قادرة على ممارسة صلاحياتها دون ضغط أو توجيه، وتتحمل مسؤوليتها في حماية الحقوق وصون الحريات. إن إصدار القانون الأساسي للقضاء قبل نهاية السنة الجارية يأتي كخطوة ملموسة نحو هذا الهدف، إذ يترجم الإرادة السياسية إلى واقع قانوني يُكرّس استقلالية السلطة القضائية في جوهرها وممارساتها، بما يجعلها إحدى ركائز “الجزائر الجديدة” التي وُعد بها الشعب منذ أول خطاب رئاسي.
إن العدالة المستقلة حقّ يُنتزع عبر بناء مؤسسات قوية وفاعلة، وهذا ما تسعى إليه الدولة اليوم من خلال سلسلة إصلاحات متكاملة تبدأ من تحديث النصوص ولا تنتهي عند تطوير الكفاءات. فاستقلال القضاء لا يتحقق بمجرد إعلان النوايا، بل عبر منظومة عمل متكاملة تُضمن فيها استقلالية التعيين، والشفافية في المسار المهني، والرقابة القانونية المتبادلة بين السلطات. وهنا يظهر الدور المحوري للمجلس الأعلى للقضاء الذي يرأسه رئيس الجمهورية، باعتباره الضامن لمبدأ الحياد والتوازن داخل الجهاز القضائي. فإرادة الإصلاح التي عبّر عنها الرئيس ليست فقط رغبة سياسية، بل رؤية مؤسساتية تهدف إلى جعل العدالة سلطة حقيقية لا أداة تنفيذ.
ومع هذه الخطوات المتسارعة، يبدو أن الجزائر تتجه نحو مرحلة جديدة تُقاس فيها قوة الدولة بمدى نزاهة قضائها لا بحجم مؤسساتها. فالعدالة المستقلة هي الشرط الأول لأي تنمية اقتصادية أو استقرار اجتماعي، لأنها تمنح المستثمر الثقة والمواطن الطمأنينة. وعندما يشعر الجزائري أن القانون يحميه قبل أن يُلزمه، يدرك أن بلاده تسير فعلا في طريق التحول العميق نحو دولة الحق والقانون. وهكذا، يتجاوز مشروع الإصلاح القضائي كونه ورشة قطاعية، ليصبح مشروعا وطنيا لبناء الجزائر الجديدة.
م ع