قال الكاتب والناقد حبيب مونسي “إن المقابلة بين النقد والحرية، يثير عند المتلقي كثيرا من الرؤى المتعارضة، التي يقف فيها كل طرف على النقيض من الآخر، لأن النقد يثير-استنادا إلى حيثياته التقعيدية- الشعور بالقيد، والقهر، والرقابة، والتسلط، بينما يظل لفظ الحرية لفظا تنساب فيه الأمور دون شرط”.
وأشار مونسي إلى “أن المفكرين القدامى أدركوا أن الهيمنة على العقول وتوجيهها وقيادتها، إنما يمر عبر الهيمنة على الكلمة والتحكم فيها، وإخراجها مخارج المناسبة والاقتضاء، وقد جعل “أرسطو” -من قبل- سر البلاغة في “القدرة على إيجاد اللغة التي يقتضيها الموقف ويتلاءم وإياها”، وكأنه يشير من طرف خفي، إلى أن العبارة لا تكتسب حدتها العاطفية إلا إذا شحنها الموقف بملابسات قد تمتد طولا وعرضا في التاريخ والمجتمع، فيأتي الموقف مثقلا بخلفيات، لا تكون العبارة المستعملة إلا تمظهرا قد لا يتسع لها كلها، بل تشع العبارة إشاعات ينفتح لها الدال على المحتمل والمتعدد”.
وأضاف حبيب مونسي قائلا:”لقد عمل النقد القديم على تمديد الحاضر إلى فسحة المستقبل، حتى يحتل المجتمع مكانة فيه، وقد سلمت بنياته من كل تغيير ومستجد، وكلّما تشدد النقد في صرامة معاييره وشحذ همتها، كلما كشف عن هيمنة خارجية، لا ترى فيه آية إبداع، بل حارسا أمينا ينافح دونها دواعي التحول والإندثار، وصمام أمان للمجتمع من التفسخ والإنحلال، فلم يكن النقد القديم مستهينا بالجدة التي تسكن الآثار الإبداعية، ولم يكن معطل الإحساس تجاهها، إنما كان يخشى زوال النظام، وانقطاع أسباب الإنسجام، وانتشار دواعي الفوضى والإضطراب، لم يكن يجد بين يديه سوى صورة واحدة للمجتمع استقرت طبقاتها في نسق واحد متدرج، ينظم العلاقات والمصالح، فإذا زالت أسباب تماسكه، تهاوى الكل وعمت الفوضى وانتشر الخراب ولم تقدم الآثار سوى “الثورة” و”التمرد” في غياب انسجام بديل يحفظ للمجتمع استقراره من جديد”.
وأكد ذات الناقد “أن النقد القديم رفض اعتبار الأدب “رسالة” وجعله فنا و”نجاحا جماليا” يقوم على وضوح الشكل ووضوح الفكرة، حيث يتم التوهج الجمالي، ذلك لأنه يعتقد جازما أن الأدب الحق إنما يقوم على مبدأين اثنين: أولهما أن الدلالة الحقة للأثر تقع في المستوى الواضح من العبارة، وثانيهما، أن الأثر الأدبي يوافق دائما ما يريد الكاتب قوله، لأن الفعل الإبداعي فعل واعي قصدي: واع من حيث كونه عملا مهندسا يقوم على إرادة حرة في مجالها وقصدي باعتباره خطابا أحاديا واضحا. وإذا تحقّق للنقد هذا الزعم أمكنه لاحقا نفي كل محاولات التأويل وتجاوز البنية الدالة إلى فضاء الاحتمال في المدلول، لأن “الرغبة في البحث أبعد من ذلك وأعمق، أمر لا فائدة وراءه، بل هو خطر، لأنه كما يقول “بيكار” ينتهي إلى نفي الأدب، بيد أن الأدب – حتى وإن كان واعيا قصديا فهو كالكلام العادي يتشكل من فترات صمت، ربما تكون دلالتها أشد بيانا من المنطوق، وأكثر إيغالا في مطالب النفس إزاء المواقف المختلفة”، مردفا:”لقد أدرك “سارتر” أن غنى الحياة النفسية في جانبها الصامت، ذلك الجانب الذي يختزن اللاوعي والوعي في آن، والذي يرضى بالصمت تعبيرا، قد يدركه المتلقي وقد يفوته وهو شأن الأدب عموما يراوح به بين الكلمة والكلمة، والجملة والجملة، وقد يجعله حاجزا شفافا بين الأثر والتلقي، حتى تكتسب اللغة إشراقا خاصا يتخلل كل كتابة”.