“أتمنى أن يأتي من ينصفني”، عبارة بقلم مي زيادة تتصدر كتاب واسيني “ليالي إيزيس كوبيا.. ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية”، ومن بعدها تتوالى البكائيات، وما يسميها المؤلف بالأسرار الخفية في حياتها وعلاقاتها، التي يحبكها الكاتب سرديًّا إمعانًا في إنصاف الكاتبة بالتعرية، وقول كل المسكوت عنه، وإن كان لا يضيف إليها مجدًا، وقد يوجه إليها لومًا واستنكارًا، لاعتبارات يراها البعض بعيون أخلاقية..
وارتكز الكتاب على كل ما هو ساخن ودامٍ بمذكرات مي، في دوامات عشقها خصوصًا، وفي مشوارها نحو الغدر والموت، بطعنة من ابن عمها جوزيف الذي أحبته ووثقت به، فقادها إلى التهلكة: “أخرجوني من بيتي قبل الرابعة بعد الظهر، وأوصلوني إلى مكاني في القطار، وغابوا عني. أرسلوني إلى العصفورية، بحجة التغذية. وباسم الحياة ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل، وأموت شيئًا فشيئًا. جوزيف، كان قاتلي ومقتلي من دمي. قال لي: تعالي، يا مي. الكل ينتظرك في بيروت. الأهل لا ينامون، يتناوبون على انتظارك. ضيعتك بشحتول تنتظرك”.
ويختتم واسيني الأعرج ليالي “إيزيس كوبيا” (الاسم المستعار لمي زيادة)، معلنًا أن “الرواية” أصبحت اليوم أهم سلاح في وجه طغيان النسيان، وهزيمة الذاكرة، لتحرير التمثال العالق منذ قرون، بأعماق الصخرة الصماء، معتبرًا أن عمله بمثابة “استعادة امرأة بدأ النسيان الظالم يطويها، ويسرق منها وجودًا إبداعيًّا واجتماعيًا وإنسانيًّا”.
وبعيدًا عن الكلام الشعاري الذي ردده المؤلف وبعض النقاد حول إنصاف الكتاب لمي زيادة “إبداعيًّا”، وانتصاره للمرأة العربية المقهورة على وجه العموم، وتبنيه قضاياها ضد الذكورية في كل مكان وزمان، فإنه يمكن القول إن أبرز جوانب إنصاف مي زيادة في الكتاب بالتحديد هو فضحه تفاصيل مؤامرة ابن عمها (حبيبها في الشباب المبكر) بعد وفاة والدها ووالدتها وجبران خليل جبران (الصديق والحبيب أيضًا)، حيث أصيبت مي في ذلك الوقت باكتئاب حاد، وفقدت الرغبة في الطعام، واستغل ابن عمها حالتها النفسية السيئة ليجعلها تتنازل له عن ممتلكاتها، وينتهي الأمر بتدميرها، ورميها ظلمًا بالجنون، وهي التهمة التي تنفيها تمامًا مذكراتها أيضًا، فكاتبة هذه السطور لها عقل وقلب سليمان نابضان متوهجان.
وتتقصى تفاصيل الكتاب ما هو مثير ومشتعل من كؤوس العذاب التي تجرعتها مي زيادة في هذه الفترة المظلمة من حياتها، كتعرضها لإدخال الطعام إلى جوفها بالقوة عن طريق أنفها عندما أضربت عن الطعام، وتفاصيل علاقاتها بجبران ولطفي السيد والعقاد وطه حسين والرافعي وشكيب أرسلان وفارس الخوري، وكيف أن غالبية أصدقائها انفضوا من حولها عندما اتهمها الطامعون في ثروتها بالجنون، تقول مي: “كانت ذئاب تفترسني أمام الجميع، ولا من يحرك يده”.
ويعرّي واسيني بعض العلاقات الخاصة في حياة مي، استنادًا إلى مذكراتها، خصوصًا علاقتها بجبران: “حبيبي وأخي الذي يعرف جراحاتي التي لم يلمسها حتى الأقربون، رفضتُ أن أكون مجرد رقم في حديقة نسائه، لو قادني القدر نحو ذراعي جبران كنت طحنته بغيرتي وافترقنا بسرعة بشكل بائس وحزين وحقد لا يُمحى. نعم أنا سيدة الأقدار الحارقة، ورجل نشأ في الحرية ومات فيها لا يمكنه أن يدرك حرائقي مهما تواضع معي، كان سندي وصديقي وأخي الذي لم تلده أمي وحبيبي الآخر، وموته دمرني”.
وتحكي مي عن العقاد ما يجد فيه واسيني مادة لإثراء توليفته الشيقة (على أن هناك من يشكك في مثل هذه السياقات، ويصفها بالاجتزاء المخل)، تقول مي وفق ما نقله واسيني: “كيف تجرأ العقاد أن يرميني بسهولة؟ ألم يكن حبيبي؟ كان من الصعب أن يراني امرأة خارج السيطرة، خارج سربه النسوي الذي أعرفه. منحته يومًا خاصًا به، الأحد. كان يتضايق من صالون الثلاثاء. لم أكن مهيأة للنوم معه، فكان يغضب كطفل صغير. شيء ما في داخلي يرجعني إلى تربيتي بالدير، أنا امرأة مسيجة بالممنوعات”.
لقد فات قطار العمر بسرعة، وبقيت مي زيادة “واقفة على الرصيف القديم، تغزل الخيوط احتماء من برد شتاء كان على الأبواب، ونسيت أنه كان بداخلها”، وفي مذكراتها زرعت مأساتها الكاملة، بتقنية أدبية عالية، فهل كان الأوفق جني طرحها الناضج كما هو، أم بالاشتغال عليه في صيغة معالجة روائية مقترحة، على هذا النحو المثير للجدل والتساؤلات؟
ب/ص