في عمر البراءة حين بلغتُ السابعة من عمري، أمضيتُ ليلة موحشة، أرى أمي تلملم مستعدة للرحيل والدموع في عينيها وهي تجمع أغراض البيت وملابسها وملابس أختي وأخي، وتدمع عيونها كلما وصلت
لأشيائي تتجاهلها وإلى ملابسي تغض البصر عنها، لم أفهم أي شيء حينها، وجدت نفسي أحمل ملابسي وأضعها في الحقائب مع ملابس إخوتي وهي تنزعها والحزن يشدها، لماذا يا ترى لماذا ؟ كنت أسأل نفسي والجميع يكتم عني شيئا ما، كنا نعيش في بيت ملتصق ببيت جدي من أبي والذي يقطنه أيضا أعمامي وعمتاي وجدتي. كان أبي يعمل في مكان بعيد عنا يأتي كل شهرين أو ثلاثة ليجالسنا أياما قليلة ويرجع إلى عمله، لكن هذه المرة عائلتي تستعد للرحيل من دوني، لماذا ؟ لم أفهم حينها كانت الليلة الأخيرة .
لما استيقظتُ صباحا لم أجد أمي ولا أخي ولا أختي ولا الحقائب التي كنت أضع فيها ملابسي خلسة، لا أعرف، كانت لي رغبة بالبقاء مع أمي ولو ذهبت إلى أي مكان، مرت أيام عصيبة بدون عائلتي وبدأت التعود من دونهم إلا أني كنت أتجاهل ذاك الشعور، لم أكن أعرف اسمه حينها، حتما هو شعور الفقدان، كنت أنام بين أحضان أمي وكنت أمرض وتسهر أمي معي والآن أجد جدي وجدتي وأعمامي وعمتاي، ومع الوقت تعودت أكثر حتى أني لم أعد أحب الذهاب في أيام عطل الدراسة لزيارة عائلتي لكن لماذا يا ترى !!
زرعوا في رأسي مقولة آمنت بها حينها، لأنها رسخت في عقلي الباطن، مقولة أسمعها كلما جاء ضيوف إلينا يسألون لمَ لم تأخذه أمه معها يقولون بكل شفافية وأنا أسمع ” تركته لأن أمه شريرة”.
وهذا القول تردد على مسامعي كثيرا فاتخذته بصرامة.
وكل عطلة دراسية يأخذني عمي عنوة إلى زيارة عائلتي لأني كنت أرفض، فقد أصبحت لا أحبهم وأكره أمي هكذا في عقلي ومشاعري وحين أصل إليهم ألتمس الصمت كثيرا وأراقب أمي تحاول التقرب مني، وأذكر حين وضعت يديها على يدي سحبتُ يديَّ ببطء ولم أتقبل أي شيء منها “يارب سامحني “
بعد سنتين انتقلت عائلتي إلى مكان آخر وهذه آخر عطلة صيفية أخبروني أني سأبقى فيها هنا مع أهل أبي .
ماذا ماذا تقولون ؟؟! وأنا أبكي وأصرخ : أنا أحبكم أنتم لا أريد الذهاب إليهم أو العيش معهم اتركوني وشأني أريد البقاء هنا معكم
عمتي لا تسمحي لهم بأخذي أرجوك …
ظلت حالي هكذا وأخذوني بالقوة وبدأت معركتي مع نفسي ربما.
بدأت أيامي الأولى مع أمي وأبي وأختي وأخي، شعرت فيها بأني غريبٌ عنهم ولا أنتمي إليهم أبدا، ويُطرح في عقلي سؤال لماذا لم تأخذوني معكم أول مرة لماذا تركتموني ؟ وأجيب نفسي بتلك المقولة الشهيرة عندي لأن أمي شريرة تخلت عني، آه هكذا إذن
كنت لا أتفق مع إخوتي، وألتزم الصمت كثيرا كثيرا، ولم أكن أرغب في الاختلاط بهم وأفضل البقاء وحيدا، وكلما حاولت أمي الاقتراب مني كنت أبتعد عنها
ندمت ندما شديدا شديدا جدا، لو تعلمون ماذا فعلت آه آه
كنت ألعب خارج البيت وصادفت تلك الزهور البيضاء وسطها أصفر بيني وبين نفسي مع بعض الأصدقاء يقطفون الزهور ويلعبون لعبة الحبيبة يسألون الزهرة أن تجيب ينزعون عنها أوراقها ورقة ورقة ويرددون بالتوالي تحبني لا تحبني تحبني لا تحبني
أما أنا فكنت أسأل هل هي أمي الحقيقية أم لا، هل هي أمي أم لا .
هل أمي تحبني لا تحبني تحبني لا تحبني، أصبت بمواكب من الأعاصير العاطفية في قلبي. كل ليلة أضع رأسي على الوسادة أبكي بشدة بشدة بشدة ويمضي كل شيء لأقول بدأت التعود رويدا رويدا، ولا أذكر ما الذي حدث إلا أني أذكر رغبتي بالموت، نسيت السبب لكني أخبركم بأني فتحت الثلاجة لأجد درجا يحمل الأدوية والحبوب وتعرفت على حبوب للحساسية وهي منومة أيضا، حملت علبتين وبدأت واحدة تلوَ الآخرى، العلبة كانت تحتوي على عشرين قرصا ابتلعتها كلها وأويت إلى فراشي أنتظر أن أغفوَ لأني لا أريد الاستيقاظ، لكن لم يحدث هذا، بعد وقت بدأت أرتعش، نعم رأيت الموت، بدأ بطني وصدري بالانتفاض بقوة أتخبط كعجلٍ مذبوح لم تخرج روحه بعد مع ارتعاش، لمَ كل هذا أردت فقط النوم لآخر مرة . ليلتها أتت أمي مسرعة ولما شاهدت حالي أحضرت قارورة زيت الزيتون وأشربتني منها كثيرا وهي لاتعلم ما بي . لا أذكر بعدها ما حدث الى أنني أمضيت أياما كثيرة وأنا أشعر بخمول شديد وتعب وإرهاق . مضى كل شيء بخير وكبرت قليلا، انقشع الضباب وعرفت كل شيء وأكثر شيء أندم عليه هو كرهي لأمي تلك الأعوام . فالأم لا تكره ولدها أبدا أبدأ أبدا، مهما يحدث فالأم هي الحنان وهي الأمان والاطمئنان والسلام .