البَذْل والتَّضحية هُما العنوان الرَّئيس لِهِجرة النبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، فكما بذَلَ المهاجرون مُهَجَهم وأموالَهم وديارهم ووطنَهم، فقد بذَلَ الأنصارُ كذلك كلَّ ما يَمْلِكون في سبيل النُّهوض بالدَّولة ونُصْرة الملَّة، عن طيب نَفْس ورضا خاطر لا مثيل لَهما في التاريخ، فضحَّوْا بالأموال والدِّيار والزَّوجات في سبيل إيناس وَحْشة إخوانِهم من المهاجرين؛ تعويضًا لَهم عن قسوة الحال، وتسليةً لقلوبِهم عن مُفارقة أحبابِهم وأوطانهم، ويا له من شعورٍ عَزَّ وجودُه، ومشاركةٍ وجدانيَّة عميقة أعقبها عطاء بلا حدود، قابَلَها تعفُّف ورُقِيٌّ واستغناء من المهاجرين لا مثيل له كذلك. لقد كانت الهجرةُ إيذانًا بتحوُّل دفَّة الحياة في هذه الدُّنيا إلى وجهة جديدة، وإلى قيادةٍ جديدة، وإلى أمَّة ربَّانية جديدة، تأخذ بتلابيبِها إلى الله تعالى، وتقيمها على شِرْعته ومنهاجه، تزين بها ناصيتها، وتُعْلي بها هامتها، وترفع بها اسْمَها، فكان الإسلام زينةَ الدِّيانات السابقة، ومنارةً كُبْرى من منارات الْهُدى في الكون، ازدانَتْ به الأرض حتَّى فتح الدُّنيا، فكان إكليلاً جَمَّل أعناق الفاتحين، وتاجًا زيَّن رؤوس المُحاربين والدَّاعين.
لقدْ كانتِ الهجرةُ النبوية المبارَكة مدرسةً تُعلِّم الصبر والتوكُّل على الله تعالى، فلم تكن طلبًا للراحة، ولا هربًا من العدوِّ، بل كانتْ تحمُّلاً لمشاقِّ الدعوة وأعبائها، وفوق هذا وذاك كانتْ بأمرٍ من الله تعالى في وقت أشدَّ ما تكون البشريةُ في ذلك الزمن إلى هُدى الإسلام ونوره، حيث أرسلَ الله عزَّ وجلَّ نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم إلى البشرية وهي أحوجُ ما تكون إلى دعوتِه الغرَّاء، دعوة الإسلام دِين الحَنِيفيَّة السَّمحاء، وذلك بعدَ أنْ أصبح الكثيرُ مِن الناس في ظلمات الشرك والجهْل والكفر، فأرْسل الله عبدَه ونبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم هادمًا للأصنام، داعيًا إلى توحيدِ الله عزَّ وجلَّ داعيًا إلى مكارمِ الأخلاق؛ قال الله تعالى: ” قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ” الأعراف: 158. فجاء نبيُّ الرحمة صلَّى الله عليه وسلَّم داعيًا الناس إلى العفافِ والطُّهر، والخُلُق الكريم والاستقامة، وصِلة الأرحام وحُسْن الجوار، والكفِّ عن المظالِم والمحارم.