المتأمِّل في أحداث الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ومنذ خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته مع صاحبه أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، ومُروراً بأحداث الطريق والسَّفر، وحتَّى دخول المدينة المنورة يجد مواقف فيها الكثير من الفوائد والدروس والعبر، ومن هذه المواقف موقف أبي بكر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريق سيره إلى المدينة المنورة، الذي ظهر من خلاله مدى حب أبي بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم. يخبرنا عن هذا الموقف البراء بن عازب رضي الله عنه قال: “اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رحلاً بثلاثة عشر درهماً، فقال أبو بكر لعازب: مُر البراء فليحمل إليَّ رحلي، فقال عازب: لا، حتى تحدثنا: كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة، والمشركون يطلبونكم؟ قال: ارتحلنا من مكة، فأحيينا، أو: سرينا ليلتنا ويومَنا حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة -اشتد الحر-، فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه، فإذا صخرة، أتيتها فنظرت بقية ظل لها فسويته، ثم فرشت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فيه، ثم قُلت له: اضطجع يا نبيَّ الله، فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب – الذين يبحثون عنا من المشركين – أحداً، فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فسألته فقُلْت له: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من قريش، سماه فعرفته، فقُلْت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قُلْت: فهل أنت حالب لبنا لنا؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال: هكذا، ضرب إحدى كفيه بالأخرى، فحلب لي كُثْبة -قليل- من لبن، وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ، فقُلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قُلْت: قد آن الرحيل يا رسول الله؟ قال: بلى. فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحَدٌ منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقُلْت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال: لا تحزن إن الله معنا”. رواه البخاري.