يعد الفعل التطوعي سلوكا إنسانيا بالدرجة الأولى لما يقدمه من مساعدات للآخرين، فمساعدة المريض تساهم في شفائه، ومد يد العون للفقير تفرج كربته وتزيح ضائقته، وإطعام جائع غدرت به الحياة وحرمته من حرارة الجو الأسري، تعيد له الأمل…
“الموعد اليومي” حاولت تسليط الضوء على هذا السلوك النبيل باستطلاع رأي جمعيات دخلت ميدان الفعل الخيري، بسبب تجارب قاسية تعرض لها القائمون عليها، فتحولت حياتهم العادية الساكنة إلى حركة يومية دائمة، الهدف منها تقديم يد العون لأكبر عدد من المحتاجين.
جمعية “سوق” هي جمعية شبانية بالدرجة الأولى أسسها مجموعة من الشباب، اختاروا المستشفيات لتقديم المساعدة، فكان هدفهم الأطفال المرضى، بتنظيم رحلات لهم وتقديم هدايا في المناسبات والأعياد، وتنظيم دورات تثقيفية وترفيهية ببهو المستشفيات بهدف رفع معنويات هذه الشريحة، وإبعادها ولو للحظات قليلة عن رائحة العلاج ووجع الحقن.
الفقدان والحرمان بداية التحول
“منير سلامي” واحد من بين هؤلاء الشباب يروي التحاقه بجمعية “سوق” في صيف 2009، يقول إنه كان شخصا عاديا عندما يتسنى له مساعدة أي شخص يفعل ذلك، ويكون ذلك بين حين وآخر وكثيرا ما كانت المدة بين المساعدتين تصل إلى أشهر وحتى سنوات، إلى أن مرضت والدته ونقلت إلى المستشفى وتبين بعدها أنها مصابة بسرطان الرحم وكان المرض في مراحله الأخيرة، فكان دائم التردد مع والده على مركز بيار وماري كوري بسبب جلسات العلاج الكيميائي، يقول إن مرض الأم كسر ظهره وأفقده طعم الحياة، خاصة وأنه كان يدرك أن هذا المرض لا يرحم، ناهيك أن حالة والدته كانت ضمن الحالات الخطيرة، وأثناء تواجده الدوري بالمستشفيات التقى بالجمعية صدفة عندما تزامنت جلسة علاج والدته بيوم احتفالي قدمته للأطفال المصابين بالسرطان بذات المركز، يروي كيف كان أعضاء الجمعية يزرعون الابتسامة على وجوه شاحبة أرهقها المرض، كان يتأثر كثيرا ويتذكر والدته، توطدت بعدها علاقته بأحد أعضائها وأصبح صديقا له، واقترح عليه الالتحاق بهم فوافق، وازداد عزمه على فعل الخير، بعد فقدانه لوالدته، يقول إن الفعل الخيري داخل الجمعية كان له دور كبير في منحه القوة لتقبل هذا المصاب، ليزيد حبه أكثر للفعل التطوعي، وأصبح يسافر مع أعضاء الجمعية إلى عدة ولايات، ويضيف أنه اليوم لا يشعر بالراحة إلا عندما يلمس سعادة الأطفال المرضى وهم يضحكون، فالموت فرحا أحسن من الموت ألما ووجعا حسبه، وهو الهدف الذي رسمه بحياته بأنه سيبقى يساهم في زرع الابتسامة إلى أن يصل إلى المكان الذي سبقته إليه والدته.
وغير بعيد عن المرض الخبيث، اختارت السيدة ميمي رئيسة جمعية “الفجر” خدمة الآخرين وتقديم مساعدة للمصابين بهذا الداء المميت، بفتح أبواب الجمعية لكل المرضى بهدف اقتناء أدوية أو الحصول على تسهيلات للاستفادة من جلسات العلاج الكيميائي، وكان اختيارها لهذا السلوك الإنساني هو إصابتها بسرطان الثدي، أين تم استئصال إحدى ثدييها، منذ أكثر من 10 سنوات على الرغم من أن المرض كان في بدايته، فكان لهذا الحدث تأثير كبير، في البداية أدخلها في حالة من الحزن مثلها مثل بقية المرضى، إلا أنه بمرور الوقت حوّل ضعفها إلى قوة وصمود، ترجمته في إصرارها على تأسيس جمعية للمصابين بالسرطان، وهي تقدم مساعدات للمرضى عبر الولايات، وحتى المنخرطين بالجمعية وأعضائها الدائمين الذين ينشطون بمختلف الولايات سبق لهم وتعرضوا لإصابات على غرار نسرين التي تعمل في نفس الجمعية، وفضلت الانخراط بها بعد إصابتها بسرطان الدم، وتماثلت للشفاء بعد سنوات من العلاج، ولم يمنعها الشفاء من ترك العمل الخيري بل زادها إصرارا على إنقاذ حياة الكثيرين بالسعي لتوفير لهم الأدوية في وقتها والالتزام بمواعيد العلاج الضرورية.
وإذا كان المرض واحدا من بين أهم الأسباب التي تدفع الناس لإنقاذ حياة بعضهم، فهناك من اختار العمل الخيري في مجالات أخرى مثلما فعله رئيس جمعية الأفاق مسعود عزة الذي اختار أن يقوم بمساعدة المقبلين على الزواج، والفكرة ترسخت في ذهنه بعد أن عاش حياة الفقر ووجد صعوبات في إكمال نصف دينه وعندما تيسرت أموره، أول ما فكر فيه هو مساعدة غيره، فحول جزءا من منزله ببرج الكيفان إلى مكتب لاستقبال المقبلين على الزواج، لتقديم ما يحتاجونه من مستلزمات للزفاف، فيحرص على تقديم ما يحتاجونه، ولا يشعر بالفرح إلا وهو يشاهد ابتساماتهم التي يخرجون بها من المكتب وبحوزتهم ما كان ينقصهم لإتمام نصف دينهم.
نفس الأمر بالنسبة للسيد موساوي خليل رئيس جمعية “الشفاء” للمرضى الذين يعانون من مشاكل في العمود الفقري، الذي قال إنه ظل يعاني من مشاكل كثيرة بسبب معاناته من “الفتق في العمود الفقري” خاصة مع تكاليف العلاج الباهضة التي أثقلت كاهله، وهو ما دفعه للتفكير بالمرضى ذوي الدخل المحدود الذين يعانون من فتق العمود الفقري، ونظرا للمصاريف المتطلبة لأجل العلاج عن طريق إعادة التأهيل الحركي، فما كان بوسعه إلا التفكير بهذه الشريحة فأسس جمعية “الشفاء” التي تحولت إلى مدرسة تهتم بالمحافظة على صحة الظهر، وكذا الوقاية من معاودة المرض بعد الشفاء منه، كالانتكاسات وغيرها من الأمراض التي لها علاقة بالعمود الفقري.
تامر وهيبة: “تجربتي منحتني القوة من أجل النضال لتخفيف معاناة الطفولة المسعفة”
تعد وهيبة تامر إحدى الناشطات الفاعلات في المجال الجمعوي، تذوقها لمرارة علقم المعاناة والحرمان، منحاها قوة كبيرة وإيمانا عميقا بضرورة النضال، من أجل التخفيف من الألم الذي تتخبط فيه الطفولة المسعفة، فتعبت كثيرا حتى تؤسس جمعية تدافع فيها عن الحقوق القانونية وتخفف ضغط الهواجس النفسية على هذه الشريحة الضحية، وجدت السيدة تامر وهيبة نفسها في هذه الحياة وسط عائلة ظنت ولوقت طويل أنها عائلتها الحقيقية لما منحته لها من حب ورعاية واهتمام، لتعيش وسطها حياة طبيعية مثل باقي الأطفال، ولم تكن تعلم ما يُخبئه لها القدر وما ستفاجئها به الأيام، فالسيدة تامر وهيبة واحدة من الأطفال مجهولي الهوية والنسب، قامت سيدة تعمل مربية باحتضانها وتربيتها منذ أن كانت رضيعة ومنحتها كل الدفء وأحسن تربية ورعاية، وكانت هذه الأم – حسب السيدة تامر – من فرط حبها وحرصها عليها تقوم بتزوير شهادة ميلادها حتى لا تكتشف أنها ليست أمها الحقيقية، وظلت هكذا لسنوات حتى حان موعد إجراء شهادة التعليم المتوسط التي كانت تجرى في تلك الفترة (1983) بشهادة الميلاد، وهناك عجزت الأم عن إحضار شهادة ميلاد مزورة كالعادة، فمنعت المؤسسة السيدة تامر من إجراء الامتحان، كما تم إخبارها بأن تلك الأم ليست أمها، وهنا كانت نقطة التحول، حيث حدث للسيدة وهيبة اضطراب كبير بين ما قاله لها المعلمون في المدرسة وبين إنكار والدتها لذلك، ما جعلها تترك الدراسة
وتمكث في البيت، وعند بلوغها سن الثامنة عشرة توفيت أمها، لتعيد إحدى خالات وهيبة أو من كانت تعتبرهن خالاتها نفس الكلام، وتقول أثناء بكائها إن أختها لم تنجب أبدا، ما أعاد لذاكرة السيدة وهيبة كلام المعلمين، وزاد شكها ليقوم والدها بخطأ جعل شكها يقينا، حيث أعطاها الدفتر العائلي لتخبئه وهي المرة الأولى التي تلمس يداها الدفتر العائلي فاغتنمت الفرصة وفتحته لتصيبها الصدمة التي هزت كيانها وكانت أكبر من كل الصدمات، حيث وجدت الدفتر العائلي فارغا لا يحتوي لا اسمها ولا اسم أي واحد من إخوتها الخمسة لتدخل في مواجهة حادة مع والدها، لتتقبل الأمر الواقع فيما بعد، وتتحمل مسؤولية من اعتبرتهم إخوتها لوقت طويل، وأصبحت هي بمثابة أمهم وظلت كذلك إلى أن تزوج أخوها الذي قامت زوجته فيما بعد بطردهم إلى الشارع، وهناك بدأت رحلة أخرى من رحلة الصراع مع الحياة، حيث اضطرت إلى المبيت عند الأحباب والجيران الذين يعرفون جيدا رفعة أخلاقها وحسن تربيتها إلى أن استقر بها الحال عند عائلة تأويها إلى غاية كتابة هذه الأسطر وتعتبرها واحدة من بناتها، ما جعلها تقف على رجليها وتستمد قوة أكبر فقامت باستخراج كامل الوثائق الإدارية وقامت بالعديد من التكوينات وهي الآن وبحكم تجربتها الخاصة تسعى من خلال جمعيتها إلى مساعدة الأطفال مجهولي النسب والهوية، فالسيدة تامر وهيبة، كما قالت، في ختام حديثها معنا لا تسعى لمعرفة الأم البيولوجية لأنها لا تعتبر الأم من تلد وتتخلى والأهم من ذلك أن يتكون الطفل تكوينا يواجه به الحياة، كما نوهت بالدور الذي يلعبه الأطباء النفسانيون، ففي مثل حالتها لعبت النفسانية سعيدة بوناب دورا مهما في حياتها، كما ختمت السيدة تامر أنها تعتبر أمها البيولوجية من ربتها ومن آوتها، وتعتبر المجاهدات أمهات لها والأهم من ذلك، تقول السيدة تامر، إنها تعتبر الجزائر أمها. تنشط جمعية الطفل البريء ذات الطابع المحلي، التي ترأسها وهيبة تامر في مجال الدفاع عن حقوق الطفولة المسعفة، رصيد وهيبة في النضال ومعاناتها الكبيرة بعد اكتشافها أنها من أبوين مجهولين جعلها تتأثر لكنها لم تستسلم، وواجهت مصيرها بصبر واستماتة، وبعد أن اقتنعت أنه بإمكانها أن تنجح في تغيير ظروفها الصعبة وتخلصها من قسوة نظرة المجتمع، تطمح اليوم لتغيير واقع الآلاف من الأطفال الأبرياء .
لمياء. ب