تحيي الجزائر، اليوم، وعلى غرار كافة دول العالم، اليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة، وهي المناسبة التي يكثر الحديث فيها عن هذه الفئة التي تبرز معاناتها المزدوجة منذ الولادة، حيث تعاني هذه الشريحة من التهميش وعدم الرعاية، ما يتسبب في مضاعفات نفسية وصحية وخيمة، بالمقابل هناك الكثير من هؤلاء تحدوا الإعاقة والظروف وبرزوا في ميادين متعددة وكانوا مثالا للتحدي ورمزا للطموح القاهر للظروف، وكشفوا عن إرادة كبيرة للتغلب على مختلف الصعاب والذهنيات التي تشكك في قدرات هذه الفئة.
نادية مداني: “الإعاقة ذهنية وليست حركية”

“الإعاقة ذهنية وليست حركية”، هكذا رددت على مسامعنا السيّدة نادية مداني بابتسامة عريضة يحدوها كل العزم والاصرار لكتابة فصول قصة عنوانها التحدي واثبات الذات، حيث لم تمنعها إعاقتها الحركية عن ولوج عالم الفلاحة من بوابة تخصصات البيطرة وتربية الدواجن وكذا نشاط أغذية الأنعام حتى أضحت اليوم سيّدة أعمال ناجحة ومعروفة في جميع أرجاء الشلف بشهادة زبائنها.
السيّدة مداني التي ولدت سنة 1963 بمدينة قسنطينة وبإعاقة حركية، ثم انتقلت إلى فرنسا للعلاج وإعادة التأهيل حتى أمضت 13 سنة من طفولتها وشبابها في أرض المهجر، كانت لها كل الفرص والحظوظ للظفر بإقامة دائمة إلا أنها – كما قالت – آثرت سنة 1987 العودة إلى أرض الوطن وكلها شوق لعائلتها ومسقط رأسها لتبدأ حكايتها من خلال الدخول إلى جامعة قسنطينة واختيار تخصص البيطرة.
تسترسل السيّدة نادية في الحديث: “بالجامعة تعرفت على زوجي الذي كان دائما سندا قويا لي… وبعد زواجنا انتقل للعمل بولاية الشلف وبالضبط بلدية عين مران… في البداية لم أعجب بالأوضاع خاصة لما تنتقل من مدينة كبيرة إلى بلدية صغيرة وفي سنوات التسعينيات (1993) “لتخوض في بادئ الأمر تجربة التعليم ثم تعمل فيما بعد بالمذبح البلدي وكذا مع زوجها البيطري، أين واجهت بعض الفلاحين الذين يرفضون فكرة أن تقوم امرأة بتلقيح ومعاينة حيواناتهم، نظرة لم تزدها إلا إصرارا على تغييرها وكسب ثقة هذه الشريحة (الفلاحين) لتبدأ من هنا مسيرة النجاح”.
“إرادتي للنجاح وحبي للمهنة جعلاني أجاري الأمور وأسعى لتغيير ذهنية أن المرأة غير قادرة على العمل في المجال الفلاحي … لم أكن أتقن اللغة العربية، فتعلمت اللهجة المحلية وطورت لغتي واستطعت التواصل مع الجميع”، وأما الإعاقة، فتقول ذات المتحدّثة، إنها لم تفكر أبدا أنها ستحول بينها وبين تحقيق حلمها في انشاء مصنع لإنتاج أغذية الأنعام.
وعن حلم انشاء مصنع لأغذية الأنعام، تقول السيّدة مداني إنها “صالت وجالت في مختلف المستثمرات الفلاحية” من خلال عملها كبيطرية، كما كانت لها تجربة في تربية الدواجن لتأتيها فكرة انتاج الغذاء، حيث كانت بداياتها بالطرق التقليدية وحسب احتياجاتها لتطمح فيما بعد للتسويق على المستوى المحلي وتجسيد مشروعها الخاص.
ولم يكن عام 2013 عاديا في حياة السيّدة مداني التي استطاعت بفضل إرادتها وكذا مرافقة الفرع المحلي للصندوق الوطني للتأمين عن البطالة، تحقيق حلمها وتجسيد مشروعها المتمثل في مصنع لإنتاج أغذية الأنعام والدواجن، حيث أعربت عن ارتياحها لتطور نشاطها وترقيته، مشيرة إلى نجاح المشروع و”لمَ لا توسعته مستقبلا”.
العائلة خير داعم

وفيما يخص فكرة التقدم إلى الصندوق الوطني للتأمين عن البطالة، كشفت ذات المتحدثة أنها كانت تتخوف في بادئ الأمر من رفض ملفها بحكم أنها معاقة حركيا وكذا في ظل الأفكار السلبية التي كانت تُتداول عن بيروقراطية الإدارة، لكن وقوف عائلتها جنبها بالإضافة إلى التسهيلات التي تلقتها من إدارة جهاز “كناك” ساهم في تحقيق مشروعها ودخوله حيز الخدمة، ويساهم اليوم في تمويل السوق المحلية، فكانت بذلك إحدى العينات التي أثبتت جدارتها واستحقاقها لدعم الدولة.
من جانبه، أكّد ممثل “كناك”، الهادي الأوس، أن مشروع السيّدة مداني من أهم المشاريع التي تعنى بالقطاع الفلاحي (أغذية الأنعام) بالمنطقة، في حين أشار إلى ثقة الجهاز التامة في المترشحة التي قدمت طلبا للحصول على الدعم نظير مؤهلاتها العلمية وتجربتها الميدانية وبغض النظر عن إعاقتها، “بل بالعكس تحظى فئة ذوي الاحتياجات بالأولوية، فضلا عن مرافقة واستشارة خاصة بناء على تعليمة مركزية في إطار تسهيل ادماج هذه الفئة ومساعدتها”، كما قال.
وأضاف ذات المسؤول أن مصالحه تقوم بعديد الزيارات الميدانية بغية معاينة تقدم المشروع الذي بلغت قيمته أزيد من أربعة ملايين ونصف دج، واطلاع صاحبته على آخر المستجدات والامتيازات التي يمكن أن تحظى بها، بالإضافة إلى امكانية تكوينها في تخصصات المقاولاتية والتسيير.
وبخصوص ملفات ذوي الاحتياجات الخاصة التي موّلها جهاز “الكناك”، أشار ذات المصدر إلى تمويل زهاء عشرة مشاريع خلال آخر خمس سنوات، مذكرا بالمناسبة بتحفظ بعض المتقربين من الجهاز بخصوص التصريح بإعاقتهم رغم أنهم يحظون بتخصيص شباك لهم ومستشار خاص.
الإرادة، العزيمة والاصرار هي مبادئ تشبعت بها السيّدة مداني للتغلب على إعاقتها الطبيعية حتى كانت مسيّرة ناجحة تحظى باحترام موظفيها وكذا زبائنها الذين اعترفوا بكفاءتها في التسيير والتسويق، لتصنع لنفسها اسما بمجال تلتقي فيه ذهنيات ومستويات مختلفة اعتادت على أن يكون الرجل هو ربّان السفينة.
.. وربة بيت بامتياز
وتمكنت السيّدة نادية مداني من التغلب على إعاقتها واقناع الفلاحين بقدرتها على العمل في قطاعات البيطرة وتربية الدواجن وأغذية الأنعام، وهي أيضا ربّة بيت ناجحة بشهادة زوجها وأبنائها الثلاثة الذين يفتخرون بوالدتهم التي شقت طريقها للنجاح عبر عديد المحطات من وراء البحار إلى شرق الجزائر فغربها تاركة مغامرة المهجر، مؤكدة بالمناسبة عدم تفكيرها في العودة للضفة الأخرى وداعية الشباب إلى استغلال الفرص المتاحة في البلد والابتعاد عن ظاهرة الحرقة التي جنت أرواحهم وأحزنت عائلاتهم.
وعن مكانة المرأة في المجتمع الجزائري اليوم، ترى السيّدة مداني أن المكتسبات المحققة في هذا المجال كفيلة بتجسيد مشاريعها وطموحها “يكفي فقط تحلّيها بالإصرار والعزيمة” على بلوغ الأهداف المرجوة. أما عن فئة ذوي الاحتياجات الخاصة فتقول إن “الإرادة هي السر لولوج أي مجال موازاة مع ضرورة التفكير بأن الإعاقة تكون ذهنيا وليس حركيا”.
فتاحي نوال وجرجور أحمد نموذجان لتحدي الإعاقة ومزاولة أنشطة منتجة

تعد فتاحي نوال (35 سنة) وجرجور أحمد (24 سنة) من ولاية أدرار نموذجين لأفراد من فئة ذوي الإحتياجات الخاصة ممن تحدوا الإعاقة وتمكنوا من ممارسة أنشطة منتجة.
ولدى مشاركتها في فعاليات إحياء اليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة، أشارت الآنسة نوال إلى أن مزاولتها نشاط الطبخ التقليدي تعكس مدى إرادتها القوية على تحدي الإعاقة.
وقد راودتها هذه الفكرة -كما ذكرت المتحدثة- بعد الإقبال والطلب الذي باتت تعرفه الأكلات التقليدية المحلية من طرف زوار المنطقة من السواح والضيوف، مثمنة في ذات الوقت جهود ورشة البنات بالمركز التي رافقتها في هذا المجال.
وأضافت أن رغبتها الشديدة وتشبثها بالفكرة حفزها على التقدم إلى الوكالة المحلية لجهاز القرض المصغر الذي رافقها في تمويل هذا النشاط المصغر الذي شرعت في مزاولته بعد دعمها ماليا من طرف هذا الجهاز.
وتطمح الآنسة نوال إلى ترقية نشاطها وتوسيعه بمساعدتها في الحصول على محل يتيح لها ممارسة هذا النشاط خارج المنزل العائلي الذي بات لا يتسع لذلك، مما سيساهم أيضا في توفير مناصب شغل ودخل للفتيات اللواتي سيساعدنها في هذه المهنة .
ومن جانبه، يطمح الشاب جرجور أحمد الذي ينتمي لذات الفئة الإجتماعية أيضا إلى مرافقته في استحداث نشاط مصغر في المجال الفلاحي بعد الخبرة التي اكتسبها على مستوى المزرعة البيداغوجية بالمركز النفسي البيداغوجي بأدرار.
ويساهم هذا الشاب الذي التحق بالمركز سنة 1992 وتخرج منه في جوان 2007 حاليا في الإشراف على تسيير المزرعة البيداغوجية بهذا الهيكل التضامني المتخصص ومرافقة المتربصين في مجال زراعة مختلف المنتوجات الفلاحية الواحاتية، مثلما أشارت إليه الأخصائية النفسانية ورئيسة المصلحة البيداغوجية بالمركز السيدة نهاري زينب.
ل. ب