“الفيلم مُستوحى من أحداث حقيقية”. مع هذه الكلمات، يظهر أول مشهد من “هيليوبوليس”، أول عمل سينمائي للمخرج التلفزيوني جعفر قاسم. الأحداث الحقيقية تاريخية، ترتبط بمجازر 8 ماي 1945، إبّان الاستعمار الفرنسي. إنجاز الفيلم حدثٌ، قد يكسر رتابة المشهد السينمائي في الجزائر في زمن تقشّف الإنتاجات السينمائية الرسمية، وتفشّي كورونا.
الفيلم عن المقاومة ومواجهة الشرّ، وعن الثورة ضدّ مغتصب. مقداد زناتي مُجاهد مقاوم معروف، لكنْ قد يكون شخصية خيالية، أو جندياً مجهولاً، وربما مثّلت سيرته روح المقاومة الشعبية للاستعمار. وفق الملخَّص، ليس مقداد زناتي مُضطَهَداً من عامّة الشعب، ولا شاباً متحمّساً لأفكار ثورية. إنّه ابن القايد زناتي (“القايد” رجلٌ خاضعٌ للمستعمِر الفرنسي ضدّ أبناء جلدته)، صاحب مزرعة كبيرة، ومُحبّ للحياة الفرنسية، التي يحافظ عليها ويحرص على توريثها لابنه وابنته. صديق الفرنسيين، وربّ عائلة ذات امتيازات كولونيالية واضحة.
لكنْ، ما الذي يجعل رجلاً بـ “امتيازات” مشبوهة كهذه يتصدّر ملصق أول فيلم لجعفر قاسم، الذي أنتَجته وزارة الثقافة ؟ الإجابة لاحقة على الوقوف على جدلية مهمّة، أهملها النقد طويلاً: صورة الخائن أو الخبيث أو العدوّ المحليّ في السينما الجزائرية، الخاصّة بتاريخ الجزائر زمن الاستعمار الفرنسي.
عند الحديث عن ملامح شخصية الحرْكي، أو القايد، في “ريبرتوار” السينما الجزائرية، يصعب تجاوز الصورة النمطية التي كرّستها أفلام أيقونية معروفة، استندت في تشكيلها لشخصية القايد الخائن إلى نماذج موثّقة ومتداولة في الأرشيف الجزائري، تُظهر قيّاداً في صورة الحركي، بلباسٍ باذخ مكوّن من “برانيس” بيضاء وحمراء، متوّجة بأوسمة الاعتراف الفرنسي، وعلى رؤوسهم عمامات الاختلاف الطبقي، وعند خروجهم إلى العامّة لا ينزلون عن أحصنتهم.
مَشاهد كهذه عزّزتها السينما الجزائرية بخطاب استعلائي وسلوكٍ استكباريّ، يفرّقه أصحاب هذه الشخصية عن أبناء عرقهم المغلوبين، بينما ينحنون بخنوع مقيت ودونية واضحة أمام السيّد الفرنسي. هذا يُذكِّر بمَشاهد من “وقائع سنوات الجمر” (1974) لمحمد لخضر حامينا، و”بني هندل” أو “المُقتلعون” (1977) لِلَمين مرباح، و”بو عمامة” (1985) لبن عمر بختي: 3 مخرجين، وحركيٌّ خائن واحد.
وأوردت “العربي الجديد” مقالا مطولا في هذا الشأن، وأشارت إلى أنه في هذه الأفلام، يظهر القايد في صورة نمطية، مرتدياً “برنوساً” أبيض وأحمر، بعنجهية سليطة مع أبناء جلدته، ووعيد دائم لمخالفي أوامر “السيّدة فرانسا”، التي “أنعمت على الجزائريين المتوحّشين والأنذال بحضارتها وثقافتها”.
في فيلم “هيليوبوليس”، هناك تحفّظ على مفردة “خاين”، وتركيز على مفردة “قايد”. في المسار تصاعديّ لسيرة عائلة زناتي الجزائرية، وارثةً مكانة رفيعة ومزرعة كبيرة في مدينة هيليوبوليس بـ”قالمة” (شرقيّ الجزائر). لا يزال السيد مقداد زناتي (عزيز بوكروني) قادراً على مجاراة الـ “كولون” ومزاحمتهم في تجارة القمح، مُحتفظاً بمكانة مبجّلة في المجتمع الفرنسي. عودة ابنه محفوظ من الجزائر العاصمة، بعد رفض تسجيله في تخصّص علمي جامعي، بحجّة أنّه جزائري، شكّلت أول صفعة لمقداد، المتصالح مع هويته الفرنسية الجديدة، التي لم تتصالح مع أصله بعد.
لاحقاً، يصطدم مقداد بنشاط ابنه السياسي مع المتحمّسين لفكر فرحات عباس، ودعوات التحرّر، فتحدث قطيعة بينهما. تتعزّز القطيعة مع أحداث الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها على فرنسا الاستعمارية، لكنّها (القطيعة) مدعومة بخوف مقداد على مصير ابنه. يحاول الأب الصارم الحفاظ على مصالحه، فيُهادن “السيّدة فرانسا” على حساب مطاوعة ابنه المتمرّد، لكنّ الشرخ بين عائلة القايد والسلطة الفرنسية واقعٌ مُعزّزٌ بِغِلّ الـ”كولون” وسخطهم على زناتي، الذي لم يقدّر شرف الانتماء إلى الحضن الفرنسي.
لكنّ قدر هيليوبوليس سدّد لمقداد ابن القايد صفعة أكبر، إذْ يقع ابنه في أسر التصفية العرقية، بعد 8 ماي 1945، ويُحاكم صورياً مع زملائه في النضال، ويُهيَّأون للإعدام رمياً بالرصاص. يحمل الأب مقداد “برنوسه” الأبيض وأوسمة صدر أبيه القايد، ويهرع لإنقاذ ابنه محفوظ. يركع أمام الضابط الفرنسي، باكياً: “أنا كلب”، ويصيح: “نحن كلاب”. يستعطف الضابط، ويتذلّل له لعتق ابنه، لكنّ الضابط يأمر بتنفيذ الإعدام. يسقط محفوظ ومن معه، وعلى ألسنتهم صرخات المقاومة. رغم التذلّل، يموت محفوظ.
يشرع الـ “كولون” في حملة صيد بشري. إنّها التصفية في “هيليوبوليس”. يُطارد الـ”كولون” جيرفي غريمَه في التجارة والهوية مقداد زناتي، الذي يبتعد عن هيليوبوليس مع ابنته ومن لجأ إليه. في طريق الهجرة، لا تفارقه صورة ابنه المغدور. يتوقّف، ويشدّ على بندقيته، ويعود للمواجهة. إنّها صورة ملصق الفيلم، وبداية قصة أخرى، قد يتحوّل فيها “قايد الأمس” إلى “ثائر اليوم”.
نهاية مختلفة لقايد ابن قايد، حظي بها الممثل عزيز بوكروني، مؤدّي دور مقداد زناتي في “هيليوبوليس”، على عكس نهاية الممثل سيساني، الذي بقي “قايداً خائناً” في الذاكرة الجماعية في فيلم وقائع سنين الجمر. أما رويشد، فاستطاع بحِرَفيّته أنْ يتحوّل من “خاين” في العفيون والعصا إلى “مُجاهد بالصدفة” في “هروب حسّان طيرو” (1974) لمصطفى بديع. نجح بوكروني في الانتقال من شخصية القايد المُستكين للأمر الواقع، إلى شخصية المقاوم.
لكنْ، كيف تُقرأ هذه المقاومة المفترضة؟ أهي ردة فعل أب مفجوع في ابنه، أم صحوة ضمير متأخّرة، أم حالة لا تحتاج إلى تبرير في خضمّ حالات كثيرة، دفعت آلاف الجزائريين إلى الالتحاق بالثورة، من دون اعتبار لماضيهم المشبوه؟
ب/ص