قليلةٌ هي الأسماء التي يستدعيها الحديث عن أدب الخيال العلمي في الجزائر، فالرواية هنا، إمّا منشغلةٌ بالحفر في الماضي، بعيده وقريبه، أو منهمكة في رصد الحاضر وأزماته المتشابكة، ومن بين تلك الأسماء
القليلة، يبرز الكاتب فيصل الأحمر، الذي يأخذ الخيال العلمي حيزاً لافتاً ضمن أعماله، تأليفاً وتنظيراً وترجمة.
وأكد فيصل الأحمر، أن الخيال العلمي مغامرة في الكتابة أكثر من كونه نمطاً محدّداً ومحصوراً في التعبير عن هواجس الغد، المتربّصة بإنسان اليوم نتيجة التطوّر العلمي وما يرافقه من تبدّل لأحوال الحياة، مضيفا أن الخيال العلمي يمنح إمكانيات كثيرة للكاتب من المنطلق الأصلي والرئيسي للخيال، متسائلا إن كان الخيال في تعريفه القاعدي تفكيكاً للواقع إلى قطع صغيرة ثم إعادة تركيبه.
وقال الأحمر، إن أولى تجاربه في هذا المجال كانت قصّة قصيرة كتبها سنة 1990، واتّخذ فيها من مدينته الميلية في ولاية جيجل مكاناً لأحداثها، حيث أن بعض أصدقائه ضحكوا من كون الميلية تحتوي خيالاً علمياً، وبعضهم سأله إن كان يعتقد أن رجال الفضاء، إذا حدث وأتوا إلى الجزائر، سيتكلّمون العربية. وبعدها بأربع سنوات، كتب روايته الأولى في الخيال العلمي، ثم نشرها مسلسلَةً في الصحافة سنتي 1996 و1997، بعنوان “إسلاميا”، وفيها تَصوَّر العالم منقسماً إلى ثلاث كواكب: أمريكا وتشاينا وإسلاميا.
وقال إنه بعد عشرين عاماً، نعيش وضعاً شبيهاً بما تخيّله حينها، حيث كانت كلّ التحوّلات الإقليمية تشير إلى ظهور قطب أوروبي جديد، لكن شعوره بالممانعة الآتية من الشرق كان قويّاً، فقد بدا له أن دور الشرق، سواء الصين أو البلدان الإسلامية، سيكون أكثر أهمية من دور أوروبا، واليوم، يبدو أن الواقع يصادق رؤيته، مضيفا أنه مثل السياسة، الأدب هو فن الممكن، والخيال العلمي يمنحنا ميزة الإطلالة على ممكنات الفكر واللغة والجمال.
ثم في روايته التالية “أمين العلواني” عن دار المعرفة سنة 2007، والتي جمعت بين المذكّرات والبيوغرافيا والشعر والتسجيل المرئي والمنتخبات الأدبية والقصّة والدراسة النقدية، لتشكّل ترجمةً لحياة سيعيشها في المستقبل كاتب كبير يُدعى أمين العلواني، حيث يصف روايته بأنها تأمّلية – فلسفية، فهي تنظر في جوهر الأدب والفن والقدَر، وفي الصلات المعقّدة بين النص الأدبي والتاريخ، والإنسان والكلمات، وتتأمّل وظيفة الأدب التي يبدو أنها اهتزّت بقوّة في القرن العشرين، وبأنها عمل تجريبي، إذ تمارس لعباً بالكتابة وتخلخل كثيراً ممّا درجنا على عدّه قواعد لكتابة الرواية لا تتبدّل ولا تتحوّل.
وأضاف الأحمر، أن “أمين العلواني” تعكس الإمكانيات الكبيرة للتعبير الأدبي التي تُتيحها كتابات الخيال العلمي، فهي بشكل ما، دفع للأمور إلى حدودها القصوى، فقد حاول من خلالها، إثبات قدرة هذا النوع المنفتح بالضرورة على التجريب، فالخيال العلمي في عرف كثير من الناس هو أدب المستقبل، وهو كذلك بالمعنى الحقيقي والمعنى المجازي، مضيفا أن العمل منحه إمكانية التلاعب بقواعد التخيّل البسيطة أو القاعدية، حتى أنه تخيّل في مقطع منها أن الشخصية الأدبية المسمّاة “أمين العلواني” ستجد كتابه حولها وتقرؤه، ثم راح يتصور ردود فعلها إزاء كاتب يرسم حياتها بأدقّ التفاصيل، ثم قيل أنه ربما سيثيره ذلك الكاتب المغمور والفاشل المسمّى “فيصل الأحمر”، والذي رسم حياته، فيبحث عن أسراره ويكتب حول تجربته، وهكذا، أنشأ لعبة مرايا كبيرة يحاور من خلالها كلّ كاتب من الاثنين صورة الآخر في زمن آخر، مع تعليقات السارد.
وعن روايته الثانية، “يوم تأتي السماء” التي كتبها سنة 1997، وهي حاليا قيد الطبع عن “دار الألمعية”، قال إنها رحلة في الفضاء الخارجي بحثاً عن الذات، ضمن رؤية صوفية، موضّحاً أنه وظف ثقافته الصوفية على رسم خطوط الرواية، حيث أن المتصوّفة يؤمنون بالرحلة الداخلية، وبأن العروج في معارج القدس الأعلى يؤدّي إلى الغوص في مدارج النفس الأدنى، وفي هذا العمل، يحضر أيضاً هاجس بيئي يحذّر من الدمار الذي تحدثه التكنولوجيا، مشيرا إلى أنه لم يذهب بحثاً عن كل هذا إلى التيارات السياسية الخضراء والمنظّمات العالمية التي تدافع عن البيئة، بل اكتفى بالعودة مراراً إلى منطقتين ريفيتين: دوّار أولاد علاّل في جيجل، حيث تعود أصوله، والميلية حيث قضى معظم حياته.
وتابع روائي الخيال أن مجموعته القصصية “وقائع من العالم الآخر” عن منشورات إبداع سنة 2002، تميل إلى التجريب، وتتناول موضوعات شائعة في مجال الخيال العلمي، كالسفر عبر الزمن والأبعاد العجائبية وآثار البحث العلمي والتصوّرات الكارثية للعالم في ظل التطوّر التكنولوجي، مع حضور قوي للهواجس الفلسفية مثل دور الإرادة، إرادة الحرية، وضرورة التسامي، والعبقرية وإطارها الاجتماعي، والقوّة المطلَقة في يد الإنسان المحدود بغرائزه، والجنون، والأزمات الوجودية وصلتها بضرورات المجتمع، وصراعات الهيمنة، معبرا أنها هواجس تسكنه ككاتب لا يستطيع الامتناع عن التفكير.
وعن الترجمة، تحدث الأحمر عن رواية “عالم جديد فاضل” عن دار بنّابي سنة 2009 للكاتب والفيلسوف البريطاني ألدوس هكسلي، معتبرا إياها رواية تنتمي إلى ما يُسمّى باليوتوبيات المضادّة، أي تلك اليوتوبيات التي ترسم صوراً قاتمة عن المستقبل، وتنبّه إلى ما يحدق بالبشر من أخطار إن سلكوا بعض المسارات.
وشرح الأحمر، أن كتابة الخيال العلمي تعني أن تُواجه الواقع وألّا تهرب منه، وأن تكون حذراً، لأن الواقع في الخيال العلمي متحرّك دائماً وحقيقي، وينبض حياةً، وعلى الكاتب التحلي بالشجاعة، لأن ما يتخيّله الواحد منّا حول شكل المستقبل، غالباً ما يأتي المستقبل ليُظهر سخافته، والعزاء الوحيد للكاتب الذي يُصبح مضحكةً هو أنه غالباً ما يكون ميتا، مشيرا إلى أن أدب الخيال العلمي ليس مقروءاً جزائرياً وعربياً، وهذا واقعٌ، ولكي تكتب في هذا الحقل، يجب أن تكون من المجانين الذين يتخلّصون نهائياً من الجاذبية، ومن سلطة أنساق المجتمع العاقل، وأنظمة المنطق، وواجبات الاتجاه السياسي، وأن تجيد السير إلى الخلف مثل إبراهيم رمضان، بطل قصّة “المجنون” في مجموعته القصصية، مؤكدا أن المشتغل في هذا النوع لا ينتظر اعترافاً من أحد، لأن غالبية القرّاء والنقّاد تهضم روايات الخيال العلمي بشكل عسير منذ قرابة القرنين، وقلّما نالت اعترافا مباشرا، والعزاء هنا أيضاً هو اللذّة التي يجدها كاتبه، وهو يكشف عن واقع مخيّلته.