“فنار بن غوث” مصباح مُنطفئ في الأندلس الصغيرة

elmaouid

للوهلة الأولى، يُخيَّل إلى زائر مدينة دلّس التاريخية، شرقي العاصمة، أن هذا المبنى العتيق، الذي يتبدّى له من كلّ جهة، ليس سوى مسجد؛ فبرجُه المرتفع بخمسة وعشرين متراً من سطح الأرض يبدو أقرب إلى

صومعة الجامع. لكن، سيتبيّن، مع الاقتراب أكثر، أنه منارةٌ بُنيت وفق النمط المعماري الأندلسي.

لا غرابة في الأمر إذا كانت المدينة الواقعة في المنطقة الشمالية لولاية بومرداس، على بعد قرابة مائة كيلومترٍ من الجزائر العاصمة، تُلقّب بـ “الأندلس الصغيرة”؛ ذلك أنها أخذت الكثير من خصائص الحضارة الأندلسية التي أفِلت في الضفة الشمالية من المتوسّط فتمثَّل بعضٌ منها في جنوبه.

في كتابه “الأنفاس الأخيرة للأندلس الصغيرة” (دار الوعي، 2013)، يذكُر الباحث الجزائري، عامر شعباني، أن الأندلسيّين النازحين من إسبانيا اختاروا دلّس مقرّاً لإقامتهم، لِما وجدوه فيها من تشابه في الطقس وتقارب في العادات والتقاليد، فنشروا فيها علومهم وحِرفهم وفنونهم، فازدادت رقيّاً وازدهاراً، خصوصاً في مجالات البستنة والبناء والطبخ والنسيج، وقد أُطلق عليها في ذلك الزمن اسم “الجناح الأخضر”.

ويبدو أن التشابه مع الأندلس لم يقتصر على العمران فحسب، بل شمل طبائع الناس وأذواقهم أيضاً؛ إذ يُؤكّد المؤرّخ الجزائري، أحمد توفيق المدني (1898 – 1983)، في كتابه “كتاب الجزائر” (1932)، أن دلّس كانت، في العصور الإسلامية، حاضرةً “ذات قيمة علمية وفنيّة واسعة”، بينما نقرأ في كتاب “وصف إفريقيا” للرحّالة المغربي، الحسن ابن محمد الوزّان، المعروف بـ “ليون الإفريقي” (888 – 1550) أن سكّانها “ذوو بشاشة ومرح، يُحسنون تقريباً كلّهم العزف على العود والقيثار (…) ويرتدون لباساً حسناً كلباس الحضريّين الجزائريّين”.

وإن كنّا لا نجد في المصادر التاريخية تاريخاً دقيقاً لتأسيس المدينة، التي كانت تُسمّى أيضاً تدلس وتادلس، فإن معظمها يُرجّح أن ذلك كان قبل 250 سنة من الميلاد. ويذهب بعضهم، بناءً على الشواهد الأثرية، إلى أنها تعود إلى ما قبل التاريخ. والمؤكّد أنها عاصرت الكثير من الحضارات؛ بدءاً بالفينيقية، فالرومانية والبيزنطية والوندالية والإسلامية، ثمّ الفترة الإسبانية والفرنسية. على أنها شهدت عصراً ذهبياً في عهد الفينيقيّين؛ حيثُ كانت “مركزاً تجارياً مهمّاً ومُعتبراً”، حسب ما يذكُر شعباني في كتابه، مضيفاً أن سكّانها، اليوم، هم مزيجٌ من الأمازيغ والعرب والعائلات من أصول أندلسية وتركية.

ولنقترب من منطقة “البساتين”؛ حيثُ المنارة المعروفة باسم “برج الفنار” و”فنار بن غوث” نسبةً إلى مصمّمها الذي لا تتوافر معطياتٌ كثيرة حوله. والمكان هو أحد ثلاث رؤوسٍ بحرية في المدينة، إلى جانب “دماغ سيدي المجني” أو “رأس العلالي” الممتدّ على طول الساحل الغربي، و”رأس سيدي عبد القادر”؛ حيثُ الميناء القديم، والذي يُعرف، أيضاً، بـ “رأس الطرف” و”رأس الجبّانة”.

وتعرّضت المنارة، التي تتألّف من برج وقاعدة من طابقَين، إلى التخريب خلال الأزمة الأمنية التي عاشتها البلاد في التسعينيّات؛ إذ فجّرها مسلّحون بقنبلة في الثاني والعشرين من فيفري 1994 أتت على بعضٍ من أجزائها، وزعزعت جدرانها وأساساتها، فتوّقّفت عن العمل قرابة ستّ سنواتٍ، هي المدّة التي استغرقتها أشغال الترميم.

غير أن ما تركته يد الإنسان تكفّلت به يد الطبيعة؛ إذ لم تكد المنارة تعود إلى العمل من جديدٍ، حتّى ضرب زلزال الواحد والعشرين من ماي 2003، الذي يُعدّ الأقوى في الجزائر منذ 1980؛ حيث بلغت قوّته 7.3 درجاتٍ وخلّف قرابة 3500 قتيل، وألحق ضرراً بالغاً بالمباني التاريخية، خصوصاً في “قصبة دلّس” العتيقة، ومن بينها “مسجد الإصلاح” الذي يعود تاريخ بنائه إلى العام 1847.

“فنار بن غوث” كان أحد ضحايا الزلزال المدمّر؛ إذ أتى على أجزائه القديمة، وأحدث تصدّعاتٍ بالغةً على جميع جوانبه. وهكذا، تقرّر “إعفاؤه” من الخدمة بشكلٍ نهائي، فتحوّل مذ ذاك إلى طللٍ لا روح فيه، ولم يزده الإهمال والنسيان إلّا تردّياً، حتّى بات قاب قوسين أو أدنى من الانهيار.

ولعلّ أكثر ما يعكس حالة الإهمال تلك، تأخُّر تصنيف المبنى التاريخي ضمن الممتلكات الثقافية في بومرداس إلى 2008، وتأخر تصنيفه ضمن الممتلكات الثقافية المحميّة وطنيّاً إلى 2015. وأكثر من ذلك، لم تُجرَ أيّة ترميمات عليه، باستثناء أشغال “استعجالية” أُنجزت قبل سنوات قليلة بدعمٍ مالي من “يونسكو” لم تتعدّ قيمته عشرين ألف دولارٍ أمريكي، ولم تتجاوز الأشغال إسناده بدعّامات خشبية من داخله لمنعه من الانهيار، سرعان ما تعرّضت للتآكل وباتت مهدّدةً بالسقوط في أيّة لحظة.

هذه الوضعية دفعت جمعيات محليّة للدعوة، مراراً، إلى التدخُّل لحماية المعلم التاريخي من الضياع، بتطبيق مخطَّط عاجلٍ لترميمه، كما تدعو لتحويله إلى متحفٍ بحري يعرض الآثار التاريخية التي تقبع في زواياه.