إِنَّ دِمَاءَ الشُّهَدَاءِ لَا تَذْهَبُ سُدًى، فَكَمْ مِنْ قَطْرَةِ دَمٍ كَانَتْ وَقُودًا لِثَوْرَةٍ عَارِمَةٍ، وَشَرَارَةً لِنَارٍ لَا تَنْطَفِئُ! وَقَدْ كَانَتْ مَجَازِرُ الثَّامنِ من مَاي نَاقُوسَ يَقَظَةٍ لِأُمَّتِنَا، وَصَيْحَةً فِي وَجْهِ الْغَفْلَةِ، بِأَن الِاسْتِعْمَارَ لَا يُؤْتَمَنُ، وَأَنَّ الْحَقَّ لَا يُسْتَجْدَىٰ مِنْ عَدُوٍّ، بَلْ يُنْتَزَعُ انْتِزَاعًا بِتَضْحِيَاتِ الْأَحْرَارِ وَعَزِيمَةِ الْأَبْطَالِ. فَأَقْسَمَ أَبْنَاءُ الْوَطَنِ مِنْ بَعْدِهِمْ، عَلَى أَنْ لَا تَضِيعَ دِمَاءُ الشُّهَدَاءِ، وَلَا تُنْسَىٰ مَآسِي الأمهات الثَّكَالَى، وَلَا يُغْفَلُ صُرَاخُ الْأَطْفَالِ تَحْتَ الرُّكَّامِ. مِنْ رَحِمِ تِلْكَ الْمَجَازِرِ، وُلِدَتْ إِرَادَةُ الثَّوْرَةِ، وَنَهَضَتِ الْهِمَمُ، وَتَوَحَّدَتِ الصُّفُوفُ، وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُ الْحَقِّ تَهْتِفُ: “الْحُرِّيَّةُ أَو الشَّهَادَةُ”، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّحَظَاتُ هِيَ الْبَذْرَةَ الَّتِي أَثْمَرَتْ بَعْدَ سِنِينَ ثَوْرَةَ نُوفَمْبَرَ الْمَجِيدَةِ، الثَّوْرَةُ الَّتِي رَدَّتْ لِلْأُمَّةِ اعْتِبَارَهَا، وَلِلشُّهَدَاءِ حَقَّهُمْ، وَلِكَرَامَتِنَا الْمَهْدُورَةِ صَوْتَهَا وَسِلَاحَهَا. فلنُجدد أيها المؤمنون العهد مع الله، بِأن نسير على دربهم، وأن نحمل الراية من بعدهم، وأن نكون أوفياء لما ضحّوا من أجله، فإن دماء الشهداء أمانةٌ في أعناقنا، ووصاياهم عهدٌ لا يُنسى. قَالَ تَعَالَى في محكم التنزيل : “مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُم مَّنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ، وَمِنْهُم مَّنْ يَنتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا” الأحزاب: 23. نَعَمْ، لَقَدْ صَدَقُوا، وَقَدَّمُوا أَرْوَاحَهُمْ فِدَاءً لِلْوَطَنِ، وَعَلَّمُونَا أَنَّ الشَّهَادَةَ حَيَاةٌ، وَأَنَّ الْـحُرِّيَّةَ لَا تُشْتَرَى إِلَّا بِالدِّمَاءِ. وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَقَامِ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ: “أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ فِي الْـجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ” رواه مسلم. إِنَّ الْوَفَاءَ لِلشُّهَدَاءِ لَا يَكُونُ بِالْبُكَاءِ فَقَطْ، وَلَا بِإِحْيَاءِ الذِّكْرَى فَحَسْبُ، بَلْ يَكُونُ بِالسَّيْرِ عَلَى دَرْبِهِمْ، وَالْـمُحَافَظَةِ عَلَى أَمَانَتِهِمْ، وَتَحْقِيقِ مَا اسْتُشْهِدُوا لِأَجْلِهِ. إِنَّ أَعْظَمَ مُكَافَأَةٍ لِشُهَدَاءِ الثَّامِنِ مِنْ مَاي، هِيَ أَنْ نَحْفَظَ الْوَطَنَ مِنَ الْفُرْقَةِ، وَأَنْ نَصُونَهُ مِنْ دُعَاةِ الْفِتْنَةِ، وَأَنْ نُرَبِّيَ أَبْنَاءَنَا عَلَى حُبِّ الْـجَزَائِرِ وَالْإِخْلَاصِ لَهَا، وَالتَّمَسُّكِ بِالثَّوَابِتِ وَالْقِيَمِ، وَنَغْرِسَ فِيهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ الطَّاهِرَةَ لَمْ تُرْوَ بِالْمَاءِ، بَلْ بِالدِّمَاءِ الزَّكِيَّةِ. وَأَنْ نُذَكِّرَهُمْ أَنَّ النَّصْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالتَّضْحِيَاتِ، وَأَنَّ الِاسْتِقْلَالَ لَا يُصَانُ إِلَّا بِالْيَقَظَةِ وَالْوَحْدَةِ. وَكَمَا ضَحَّى الْأَجْدَادُ، فَإِنَّ مِنَ الْوَفَاءِ أَنْ يَصُونَ الْأَحْفَادُ مَا تَحَقَّقَ بِالدَّمِ، وَأَلَّا يَسْمَحُوا بِعَوْدَةِ الِاسْتِعْمَارِ بِثَوْبٍ جَدِيدٍ، لَا سِيَاسِيًّا وَلَا ثَقَافِيًّا وَلَا اقْتِصَادِيًّا.
اِعْلَمُوا أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ تَارِيخَهُ يُخْدَعْ فِي حَاضِرِهِ، وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْ تَضْحِيَاتِ أُمَّتِهِ، يُصْبِحُ لُقْمَةً سَائِغَةً فِي فَمِ الْأَعْدَاءِ، فَاجْعَلُوا مِنْ مَجَازِرِ الثَّامِنِ مِنْ مَاي يَوْمَ عَهْدٍ لَا نَكْثَ فِيهِ، وَوَعْدٍ لَا خِيَانَةَ لَهُ، وَوَحْدَةٍ لَا انْفِصَامَ لَهَا. اللَّهُمَّ يَا رَبَّ الشُّهَدَاءِ، وَ يَا نَاصِرَ الْـمُسْتَضْعَفِينَ، اجْعَلْ دِمَاءَ مَنْ قَضَوْا فِي سَبِيلِكَ نُورًا يُضِيءُ دُرُوبَنَا، وَسَبِيلًا نَهْتَدِي بِهِ إِلَى النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ. اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي أَرْضِنَا، وَاحْفَظْ أَوْطَانَنَا، وَوَحِّدْ صُفُوفَنَا، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا شِرَارَنَا، وَاجْعَلْ هَذَا الْوَطَنَ مَنَارَةً لِلْـحَقِّ، لَا يُذَلُّ وَلَا يُهَانُ.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر