فِلَسْطين على الرغم من محدودية مساحتها، وقلَّة سكانها “شخصيةٌ” ذات قيمة عالية، تجعل منها نموذجًا لا يقل عن أمكنة أخرى مجاورة، أكبر مساحة، وأكثر عددًا، فالمسألةُ ليستْ مساحة وسكانًا فحسب، ولكنها مسألة صلابة وقدرة على التفاعل مع الذات، ومع الكون بكلِّ ما فيه. فلسطين – إذا استعرنا مصطلح الجغرافيين – شخصيةٌ إقليمية نموذجية، قلبت المقاييس المتعارَف عليها، وانفردتْ بكونها من أغنى الشخصيات الإقليمية، دون أن تتوافرَ فيها بعضُ العناصر التي قد يراها بعضُهم هامة وضرورية. وأحسب أننا لسنا بحاجةٍ إلى أدلة، وبخاصة أننا نُشاهد بعيوننا عظمة الإنسان الذي يَحْيا على تلك الأرض وصلابته، وقدرته على المواجَهة والمقاومة والفداء والاستشهاد، وعدم اليأس أو القنوط، والصبر على الجوع والفقر والموت، كل ذلك في ظل حالةِ تَهَاوُنٍ عربية وإسلامية وعالمية، لا يمكن تفسيرُها.
إذا أردنا أن نُلَخِّص الشخصية الإقليمية لفِلَسْطين في كلمات قليلة، ونرسمها بإيجاز، فإنه يمكننا أن نقول: فِلَسْطين جارة أربع دول عربية، هي: مصر، وسورية، والأردن، ولبنان، وقد أسال موقع فِلَسْطين الجغرافي لُعاب الطامعين عبر التاريخ، فنحن نعرف أن الهكسوس انطلقوا منها إلى مصر، ومنها دخل نابليون إلى الشام، وانطلق منها المسلمون لنَشْر الدعوة الإسلامية في مصر وشمالي إفريقية وبلاد الأندلس، واختارتها بريطانيا لتكونَ تحت انتدابها؛ تأمينًا لطرق مواصلاتها إلى الهند عبر قناة السويس. وننظر في التاريخ فتتوالى الصورُ سريعة، فعلى أرضها التقت الدياناتُ السماوية الثلاثة؛ اليهودية، والمسيحية، والإسلام، وبها وُلِد المسيح، وفيها كنيسة القيامة، وهناك الكثير من الآثار والأمكنة المسيحية المقدسة التي تضرب في عُمْق التاريخ، وتربط بين الإنسانِ والمكان، وتجعل منهما شيئًا واحدًا لا يقبل التجزئة ولا الانفصام.
وفيها المسجد الأقصى، أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وفيها البقعةُ التي بارك الله حولها؛ المسجد الأقصى، قبلة المسلمين الأولى التي توجهوا إليها في المراحل الأولى من الدعوة الإسلامية، ثم استجاب الله دعوة نبيه الذي قلَّب وجْهه في السماء متحيرًا، موزع القلْب بين بيت الله الحرام في مكة، والمسجد الأقصى في بيت المقدس، فأَمَرَهُ بالتوجه إلى الكعبة الشريفة؛ “قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ” البقرة: 144، لكن تَحْويل القبلة عن المسجد الأقصى لم ينلْ من مكانته، ففي الحديث الشريف “لا تُشَدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى”.