استمع إلى قول الله تعالى العليم، وقد جعل حقهم بعد حقه سبحانه، وما ذاك إلا لعظم حقهما ” وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ” الإسراء: 23، وكانت وصية الله لك في قوله ” وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ” العنكبوت: 8. إن أحدنا إنما هو امتداد لوالديه، فإذا كنت تشب وتقوى يومًا بعد يوم، وتزداد فتوة وقوة، فاعلم أن ثمنها كان تلك الشعرات البيضاء التي على عارضي أبيك ورأسه، وتلك التجاعيد التي تعلو جبينه، ووقودها ضعف أمك وتعبها، وكل هذا لتبلغ ما أنت فيه اليوم؛ فقال لك ربك بعد هذا ” إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ” الإسراء: 23، بل يجب عليك أن تتذلل لهما وترحمهما؛ فالجزاء من جنس العمل، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وهذا فِعْلُ الكرام، وتكثر الدعاء لهما كما أرشدك ربك لذلك بقوله ” وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ” الإسراء: 24.
فبقدر ذلك التعب والنصب والمعاناة والصبر، يكون الثواب لهما والمغفرة، ولا يكون ذلك إلا طاعة لله، فمن حسنت نيته، قُبِلَ عمله ويسر أمره؛ فقال تعالى ” رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ” الإسراء: 25. نبينا البر الرحيم أخبرنا بحق الوالدين، وأرشدنا إلى ذلك؛ “إذ قال رجل: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك” رواه مسلم. وأنهما طريقك إلى الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم ” رغِمَ أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة ” رواه مسلم. واعلم أن المأمور به هو برهما، فالبر زائد على الطاعة؛ لأن الطاعة تلبية ما طلباه منك وأمراك به، أما البر تلبية رغباتهما قبل طلبها. ومن أعظم ما يُبرُّ به الوالدان هو صلاح الأبناء؛ فهو قرة العين ومهجة القلب وفيه سعادتهما. ويعظم البر بعد الممات، فأفضل ما يدخران بعد الممات هو ولد صالح يدعو لهما، فلا يرجو من ذلك حمدًا منهما ولا شكورًا، إنما يرجو الأجر والثواب من الله.