ما نزل بلاء وما فُرض ابتلاء إلا وللباري عز وجل فيه حكمة وعطاء، أوسعَ للبشر الخيرات، ونشر لهم من فضله جزيل العطايا ليبتليَ صبرهم في السراء، ثم بعدله يُنزِل عليهم من البلاء ما يجعلهم يعودون إلى حِياض العبودية، متضرعين منكسرين بين يديه سبحانه، وإن من فقه البلاء وحكمة الابتلاء أن يشعر الخلق جميعًا بالعجز والضعف أمام التفرد الرباني بالخلق والأمر والتدبير؛ قال تعالى: ” إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ” يونس: 24؛ فلما قال الإنسان: قد أمسكنا بزمام الأمر، وبدأ يحكي في النسب المئوية، أتاها أمر الباري فاختفت الأرقام وزالت الأوهام، وكأن ما كان لم يكن بقوله سبحانه: ” كُنْ فَيَكُونُ “. وإن من رحمة الله وفضله على عباده إذا ألهتهم الدنيا، وابتعدوا عن المراد من الاستخلاف في الأرض على المنهج الرباني أن يعيدهم إليه بلطفه ورحمته بزيادة في الفضل، أو بنقص في الأنفس والأموال والثمرات؛ ليتذوق مرارة الحرمان فيطلب الكريم المنان؛ قال تعالى: ” ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ” الروم: 41، وانظر إلى دقة تعبير الآية حيث قال: ” بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا “، ولو حاسبهم على كل ما فعلوا لهلكوا، ولكن يبتلي ليُبقيَ، ويصرف ليرحم، فيقلبهم من حال إلى حال؛ ليبقى العبد على المنهج وطريق الرشاد.
وقد ينزل البلاء بعباد الله الصالحين ليس لبغضهم، بل لمكانتهم عند الله؛ فيرفع لهم به الدرجات العلى من الجنة، ويخلد ذكرهم في الناس، ولإبراز شأنهم، وجعلهم قدوات ومنارات هدًى للناس؛ ولذا كان نصيب الأنبياء من البلاء والابتلاء أعظمه؛ قال صلى الله عليه وسلم: “أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلَى الناس على قدر دينهم، فمن ثخُن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعُف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل لَيُصيبه البلاء حتى يمشي في الناس ما عليه خطيئة” رواه ابن ماجه. فليس كل بلاء نقمة، بل في حنايا المحن تأتي المنح الربانية والعطايا الرحمانية، فتنشرح لها صدور أهل الإيمان، حتى يجدوا أن الحرمان عين العطاء، فالله يريد للمؤمن طهارة في الدنيا بتكفير الذنوب، وإكرامًا في الآخرة؛ حيث يأتي وليس بينه وبين الله حجاب المعاصي والآثام؛ ففي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة” رواه الترمذي.
فقه البلاء وحِكَمُ الابتلاء