أنوار من جامع الجزائر

فضائل شهر محرم – الجزء الأول –

فضائل شهر محرم – الجزء الأول –

أَلَا وَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، أَمَّا بَعْدُ:

فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ الْبَيَانِ، وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: ” إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ” التوبة: ٣٦. أمَّةَ الْإِيمَانِ: اِعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّكُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي مُحْكَمِ التِّبْيَانِ، وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ كَمَا بَيَّنَهَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَشَهْرٌ فَرْدٌ: وَهُوَ شَهْرُ رَجَبٍ، وَمِنْ عَظِيمِ حُرْمَتِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى خَلْقِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِطْلَاقِ زَمَانًا وَمَكَانًا، ثُمَّ شَدَّدَ فِي خُطُورَةِ أَمْرِهِ فِيهَا، فَقَالَ تَعَالَى: ” فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ” أَيْ: فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَعُلِمَ بِأَنَّ الظُّلْمَ – وَكُلَّ مَا حَامَ حَوْلَهُ مِنْ إِفْسَادٍ وَعِصْيَانٍ – فِيهِنَّ لَيْسَ كَالظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهُنَّ، فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَاحْفَظُوا حُرْمَتَهُنَّ. إِنَّنَا عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ تَوْدِيعِ سَنَةٍ هِجْرِيَّةٍ، وَنَحْنُ فِي أَوَاخِرِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ الْحَرَامِ، مُسْتَقْبِلِينَ غُرَّةَ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ لِسَنَةٍ جَدِيدَةٍ: 1447 مِنْ هِجْرَةِ الْمُصْطَفَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِعْظَامًا لِهَذَا الشَّهْرِ الْفَضِيلِ، وَإِكْبَارًا بِحَقِّهِ، نَقِفُ وَقَفَاتٍ مُتَأَنِّيَةً ذِكْرًا لِفَضَائِلِهِ، وَتَنْوِيهًا بِخَصَائِصِهِ. مَا الَّذِي اسْتَوْدَعْنَاكِ يَا سَنَةً خَلَتْ، وَمَاذَا أَوْدَعَكِ اللَّهُ يَا سَنَةً أَقْبَلَتْ؟ إِنَّ شَهْرَ الْمُحَرَّمِ، هُوَ شَهْرُ اللَّهِ، نَسَبَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا نِسْبَةَ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ، فَكَانَتْ عَظَمَتُهُ مِنْ عَظَمَةِ مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ، فَقَدْ صَحَّ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ قَالَ: شَهْرُ اللَّهِ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ. فَاعْرِفُوا لِلشَّهْرِ الْفَضِيلِ مَكَانَتَهُ، وَاقْدُرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِهَذَا الصَّنِيعِ تُعَظِّمُونَ حُرُمَاتِ اللَّهِ، مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ” ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ “. مَا الَّذِي اسْتَوْدَعْنَاكِ يَا سَنَةً خَلَتْ، وَمَاذَا أَوْدَعَكِ اللَّهُ يَا سَنَةً أَقْبَلَتْ؟ إِنَّ شَهْرَ اللَّهِ الْمُحَرَّمَ هُوَ مُبْتَدَأُ السَّنَةِ الْهِجْرِيَّةِ، وَعُنْوَانُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي التَّقْوِيمِ وَالتَّأْرِيخِ، وَقَدِ ارْتَبَطَ الشَّهْرُ بِالْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُبَارَكَةِ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ وَقَائِعُهَا فِيهِ، بَلْ قَدْ حَصَلَتْ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا ذُكِرَ فِي تَعْلِيلِ ذَٰلِكَ، مَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: “وَلَمْ يُؤَرِّخُوا بِالْبَعْثِ لِأَنَّ فِي وَقْتِهِ خِلَافًا، وَلَا مِنْ وَفَاتِهِ، لِمَا فِي تَذَكُّرِهِ مِنَ التَّأَلُّمِ لِفِرَاقِهِ، وَلَا مِنْ وَقْتِ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ، وَإِنَّمَا جَعَلُوهُ مِنْ أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَزْمِ عَلَى الْهِجْرَةِ كَانَ فِيهِ، إِذِ الْبَيْعَةُ – أَيْ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ مَعَ الْأَنْصَارِ – كَانَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ؛ وَهِيَ مُقَدِّمَةٌ لَهَا، وَأَوَّلُ هِلَالٍ هَلَّ بَعْدَهَا الْمُحَرَّمُ، وَلِأَنَّهُ مَنْصَرَفُ النَّاسِ مِنْ حَجِّهِمْ، فَنَاسَبَ جَعْلَهُ مُبْتَدَأً”، وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ بِقَوْلِهِ: “وَهَذَا أَقْوَى مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ مُنَاسَبَةِ الِابْتِدَاءِ بِالْمُحَرَّمِ”.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر