أدَّى لاعبو كرة القدم الجزائريون بفرنسا دورهم الوطني بطريقة مختلفة، فقد نجحت فرنسا طيلة الحقبة الاستعمارية في الاستفادة من المواهب الكروية الجزائرية وضمَّتها إلى أندية الدوري الفرنسي.
واستمرت هذه الحال حتى قرَّر “محمد بومرزاق” اللاعب المحترف هناك أن يتواصل مع قادة جبهة التحرير، بهدف تشكيل فريق وطني يُمثِّل الجزائر دوليَّا -عُرِف لاحقا- بـ “فريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم”.
في كأس العالم سنة 1958 بالسويد، الذي خسرت فرنسا مباراته النهائية أمام البرازيل، استدعى المدرب الفرنسي “بول نيكولا” أربعة لاعبين جزائريين إلى تشكيلة المنتخب الفرنسي قبل البطولة، وهُم “رشيد مخلوفي”، الهدَّاف التاريخي وأسطورة نادي “سانت إتيان”، و”مصطفى زيتوني” مدافع نادي “موناكو”، و”محمد معوش” مهاجم نادي “رَيمس”، و”عبد العزيز بن تيفور” مهاجم نادي “موناكو”.
ولكن قبل شهرين فقط من انطلاق العرس الكروي العالمي، فرَّ اللاعبون الأربعة ومعهم 30 محترفا جزائريا في الدوري الفرنسي الأول، واتجهوا جميعهم إلى تونس. وقد تواصلت جبهة التحرير الوطني مع هؤلاء اللاعبين بالتنسيق مع “محمد بومرزاق”، وأقنعتهم بفكرة تشكيل فريق يُمثِّل الجزائر في المحافل الدولية ويساند قضيتها عالميا.
وكانت خلايا جبهة التحرير منتشرة في فرنسا آنذاك، ونظَّمت هروب جميع اللاعبين من فرنسا عبر الحدود السويسرية والإيطالية إلى تونس. واستطاعت السلطات الفرنسية القبض على لاعبَين اثنَين وهما يحاولان الهروب، هما “حسان شاربي” و”محمد معوش”، حيث سُجِنا بعدئذ سنة كاملة.
وكان “رشيد مخلوفي” ابن مدينة سطيف إحدى أبرز المواهب الصاعدة في فرنسا وأوروبا حينذاك، وكان من المفترض أن يقود الهجوم الفرنسي في كأس العالم 1958 وعُمره 22 عاما فقط، بيد أن مخلوفي قرَّر الالتحاق بالثورة مُضَحيا بمستقبله الكروي في أوروبا قائلا: “لم أتردَّد لحظة واحدة في تلبية النداء، فلم يكُن أغلب الفرنسيين على علم بما يجري في الجزائر، ولكن بعدما التحقنا بجبهة التحرير تبيَّنت لهم الحقيقة”.
وقد تصدَّر فريق جبهة التحرير الصحف الفرنسية والعالمية، وسرعان ما قدَّم الاتحاد الفرنسي لكرة القدم شكوى لمنع هؤلاء الجزائريين من اللعب في أي فريق، ومنع فريق جبهة التحرير من المشاركة في أي بطولة دولية، وهو ما حصل بالفعل، إذ هدَّد الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا” كل الدول التي ستستقبل فريق جبهة التحرير الجزائرية، غير أن هذا الوعيد لم يمنع الدول الجارة والحليفة من استقبال منتخب الثوار.
صحيفة “ليكيب”: العدوى ستتوسع

وعلّقت صحيفة “ليكيب” على الحادثة قائلةً: “الرياضة أداة رائعة للتقريب بين الأفراد، إنهم يتعلمون في الملاعب كيف يتعرفون ويتفاهمون بأفضل صورة، لكن من العبث أن نعتقد بأنهم من الممكن أن يكونوا في مأمن من تأثير التيارات السياسية أو الاقتصادية الكبرى المولدة للنزاعات العالمية الحاليّة، جبهة التحرير المسؤولة عن الحدث المفاجئ الذي جرى ظهيرة يوم الإثنين استوحت طريقة الهروب من فيدل كاسترو المتمرد الكوبي الذي قام، كما نتذكر، باختطاف بطل العالم للسيارات مانوال فانجيو، لقد تصرفت بنفس الطريقة، لا شيء يمكن فعلًا أن يؤثر في الأذهان بقدر الانسحاب المفاجئ لزيتوني ورفاقه عشية مناقشة البرلمان، ومباراة دولية كبرى في كرة القدم”.
مضيفةً “من غير المجدي أن ننكر الدوي الذي سيحدثه هذا التصرف، العدوى قد تتوسع، في ذهننا بعض الأسماء الكبيرة لرياضة ألعاب القوى مثل عامر وبراقشي وميمون، وفي الملاكمة مثل حليمي وحامية، بل وفي السباحة مثل خمون باعتباره عنصرًا من الدرجة الأولى”.
الاتحاد الفرنسي يشكو إلى الفيفا

على إثر الحادثة، سارع الاتحاد الفرنسي لكرة القدم إلى تقديم شكوى لـ ”الفيفا” برئاسة آرثر دريوري يطالب فيها بمنع ما أسماهم “هؤلاء اللاعبين المتمردين” من ممارسة النشاط الرياضي في أيّ فريق، وقررت المنظمة منع فريق “جبهة التحرير” من المشاركة في أي منافسة دولية، وقد تفاعلت أغلب الاتحادات الكروية في الدول الأوروبية إيجابيًا مع شكوى باريس، فيما فُسخت عقود اللاعبين مع الفرق الفرنسية التي كانوا يلعبون بها.
ولم تكتف “الفيفا” بمنع الجزائريين من المشاركة الدولية، بل هددت أيضًا أي دولة تستقبل هذا الفريق الذي “ليست له سيادة” بالعقوبة، فيما تحدت كل من يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا والمجر وبلغاريا والصين وفيتنام الشمالية والمغرب وتونس وليبيا الحظر وتمسكوا باستضافة الجزائر، واستقبلوا فريق “جبهة التحرير”، ونظمت له مباريات قاربت الـ90 مباراةً، حتى الاعتراف الدولي بالجزائر المستقلة عام 1962، واعتماد الفيفا فريقها الوطني عام 1963.
البداية من تونس
ولُعِبَت أول مباراة لفريق جبهة التحرير مع الشقيقة تونس، الدولة الحاضنة للفريق والحكومة الجزائرية المؤقتة، وفاز المنتخب الجزائري في المباراة وأكمل مسيرته نحو العديد من المدن الإفريقية والآسيوية والأوروبية، مثل “بكين” و”بلغراد” و”بوخارِست” و”هانوي”، وهي كُلُّها مُدن محسوبة إمَّا على المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، وإما على دول حركة عدم الانحياز التي تزعَّمتها مصر والهند ويوغوسلافيا حينئذ.
وقد أدركت تلك الدول الحليفة كافة أهمية الدور السياسي لفريق جبهة التحرير، فلم يكن مجرد فريق كرة قدم، بل كان جزءا من قضية سياسية عالمية في خضم موجة مكافحة الاستعمار الكاسحة في ذلك الوقت. ففي فيتنام مثلا، استقبل رئيس فيتنام الشمالية “هو تشي مِنه” طاقم الفريق الجزائري، وهو أشهر قادة الثورة الفيتنامية ضد الاستعمار الفرنسي، وكذلك جرى استقبال الفريق في الصين تحت حُكم الحزب الشيوعي من جانب رئيس الوزراء “شو إن لاي”.
قسما في سماء العراق
ورُفع العلم الجزائري وعُزف النشيد الوطني “قَسَمًا” للمرة الأولى في افتتاحية مباراة فريق جبهة التحرير مع المنتخب العراقي ببغداد سنة 1959، وفاز حينها الفريق الجزائري بثلاثة أهداف لصِفر. ولم يكتفِ فريق جبهة التحرير بإيصال رسالته الثورية للعالم فحسب، بل أكَّد أيضا لعب كرة قدم جميلة وممتعة. ففي حين انتهجت الكثير من المنتخبات الأسلوب الدفاعي في اللعب، لعب فريق جبهة التحرير بخطة 4-2-4 الهجومية التي منحت اللاعبين مرونة ومساحة أكبر للإبداع والفنيات. وقد أدَّى هذا الأسلوب الهجومي إلى فوز الفريق بنتائج كبيرة، مثل الفوز على تونس 8-0، والفوز على يوغوسلافيا 5-1، والفوز على المغرب 8-0، وزاد في الوقت ذاته من شعبية الفريق عالميا ومن تعاطف شعوب كثيرة مع القضية الجزائرية.
رشيد مخلوفي

ولعب فريق جبهة التحرير الوطني ما يفوق التسعين مباراة منذ تأسيسه إلى أن استقلَّت الجزائر عام 1962، واعتُمِد فريقُها الوطني رسميا من طرف الفيفا عام 1963. وقد رجع لاعبو فريق جبهة التحرير الوطني إلى اللعب في الأندية المختلفة، إما في الدوري المحلي وإما في الدوريات الأوروبية. واستفادت الكرة الجزائرية من لاعبي فريق جبهة التحرير حتى بعد اعتزالهم، فكان اللاعب “رشيد مخلوفي” عضوا بالطاقم التدريبي الذي قاد المنتخب الجزائري للمشاركة في كأس العالم عام 1982 في إسبانيا، وفازت الجزائر على ألمانيا الغربية 2-1 في تلك البطولة، ثمَّ حازت الجزائر أول لقب إفريقي عام 1990 تحت قيادة المدرب “عبد الحميد كرمالي”، الذي كان لاعبا في فريق جبهة التحرير أيضا ومن قبله في نادي “أوليمبيك ليون” الفرنسي.
وقد قال “رشيد مخلوفي” واصفا سنوات اللعب باسم فريق جبهة التحرير: “كنا نُكمِّل بعضنا بعضا، والأكيد أن كلَّ واحد منا كانت له خصوصياته ونقاط قوته ومهاراته، لكنَّ عاملا واحدا كنا نتشارك فيه جميعنا: الوطنية المُتجذِّرة فينا، وحبُّنا اللامشروط لوطننا الجزائر. هذه العوامل هي التي صنعت قوتنا ومَكَّنتنا من لعب كرة جميلة بشهادة الجميع. وكم كانت فرحتنا كبيرة حينما أدركنا أن رسالتنا الحقيقية تمثَّلت في الدفاع عن ألوان العلم الوطني في المقام الأول”.
ب\ص


