اعلان فرنسا رفع السرية عن أرشيف ما يسمى بـ “التحقيقات القضائية” للحرب التحريرية المجيدة لم يكن متوقعا، ويعد في نظر المتتبعين للشأن الفرنسي- الجزائري محطة مفصلية هامة في مسار العلاقات بين البلدين والشعبين، من خلال رفع اللبس عن موضوع الذاكرة المثير للجدل من الماضي الفرنسي الذي لطالما ترددت باريس في مواجهته.
القرار الفرنسي جاء بعد يومين من زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان للعاصمة الجزائرية، فيما بدا أنه محاولة لتخفيف حدة التوتر مع الجزائر، حيث تشهد العلاقات بين البلدين أزمة محتدمة منذ أشهر على خلفية تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
ورداً على سؤال حول أن فتح الأرشيف سيؤدي لكشف حالات التعذيب الواسعة والممنهجة التي مورست من قبل الجيش الفرنسي، قالت
وزيرة الثقافة الفرنسية : “هذا لا يخيفني، فمن مصلحة بلادنا الاعتراف بذلك.. لدينا أشياء يجب إعادة بنائها مع الجزائر ولا يمكن إعادة بنائها إلا بناء على الحقيقة”.
وحول أبعاد هذه الخطوة، أوضحت وزيرة الثقافة الفرنسية في حوار مع قناة “بي ام اف – تي في” الفرنسية: “في اللحظة التي تطرح فيها الحقائق على الطاولة ويتم الاعتراف بها وتحليلها، من تلك اللحظة فقط يمكننا أن نبني تاريخاً آخرا ومصالحة”.
ويعتقد محللون أن الهدف من هذا القرار يكمن في الرد على الشكاوى المتزايدة من المؤرخين والمحافظين بشأن توجيهات السلطات الصارمة تجاه المحفوظات، فيما يرى آخرون أن توقيت الإعلان مقصود بهدف تهدئة الغضب الجزائري، خاصة وأن مسألة إغلاق الأجواء الجزائرية أمام المقاتلات الفرنسية التي تقوم بعمليات في مالي أمر سبّب الكثير من التوتر لدى فرنسا.
وسبق أن اتفق الرئيس ماكرون ونظيره عبد المجيد تبون على تعيين مؤرخين اثنين – واحد من كل دولة – لمناقشة مسألة إعادة ملفات الذاكرة. وتكونت اللجنة لاحقاً من بنجامين ستورا من الجانب الفرنسي وعبد المجيد شيخي من الجانب الجزائري.
وفي تقريره المؤلف من 120 صفحة، اقترح ستورا إجراءات لمعالجة المظالم، مثل إنشاء لجنة مشتركة تضم مؤرخين فرنسيين وجزائريين للتحقيق في عمليات الاختطاف والاغتيالات التي شملت أيضاً أوروبيين قتلوا في وهران في جويلية 1962، وأيضاً للتعرف على الأماكن التي دفن فيها السجناء الجزائريون الذين تم إعدامهم أثناء الحرب.
لكن تقريراً لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أفاد بأنه جرى لاحقاً إعادة ختم عشرات الآلاف من الوثائق التي كانت متاحة للعامة، ما أعاق البحث التاريخي وأعاد فرض السرية على المعلومات التي تم الكشف عنها سابقاً. ويتوقع خبراء ومراقبون أن يؤدي القرار الفرنسي الجديد إلى إعادة فتح تلك الملفات مجدداً.
وكان ماكرون قد صرح بأن الجزائر كدولة أنشئت بعد استقلالها عام 1962، وأنها لم تكن “أمة” قبل الغزو الفرنسي عام 1830، بحسب ما نقلت صحيفة لوموند الفرنسية، ما سبب غضباً جزائرياً شديداً أدى إلى سحب سفيرها من باريس كما منعت الطيران الحربي الفرنسي من التحليق فوق أجوائها بالإضافة إلى فسخ عقود شركات فرنسية تعمل بالجزائر.
لكن ماكرون كان قد أعلن في التاسع مارس 2021، وفي إطار سياسة مصالحة الذاكرة التي أطلقها، عن اتخاذ خطوات من شأنها تسهيل الوصول إلى إجراءات رفع السرية عن الوثائق التي يزيد عمرها عن 50 عاماً والتي يندرج بعضها تحت بند “أسرار الدفاع الوطني”، وبالتالي تقليص فترات الانتظار، الأمر الذي أدى في النهاية إلى القرار الأخير.وفي وقت سابق من هذا العام، اعترف ماكرون بأن ضباط فرنسيين عذبوا وقتلوا المحامي الجزائري علي بومنجل في عام 1957. كما أدان في أكتوبر “الجرائم التي لا مبرر لها” خلال حملة عام 1961 ضد المتظاهرين الجزائريين المؤيدين للاستقلال في باريس، والتي قتلت خلالها الشرطة الفرنسية عشرات المتظاهرين وألقت بجثثهم في نهر السين.
ص/ب