-
من التضخم إلى الإضراب.. الداخل الفرنسي يفسر توتر باريس مع الجزائ
فرنسا، التي تحاول في كل مرة أن تُخفي جراحها الداخلية خلف ستار من الأزمات المفتعلة، تحاول أن تجد في الجزائر “شماعة جاهزة” لصرف الأنظار عن واقع اجتماعي واقتصادي يزداد قتامة.
ففي الوقت الذي يواجه فيه النظام الفرنسي “ثورة شعبية صامتة” مرشحة للانفجار مع إضرابات شاملة في سبتمبر القادم، وتتصاعد فيه موجات الغضب ضد سياسات التقشف وتسليح أوكرانيا والدعم غير المشروط للكيان الصهيوني، تلجأ باريس إلى افتعال توترات خارجية لتقديم رواية بديلة للرأي العام. غير أن هذه الاستراتيجية التي قد تنجح ظرفيا في خلق خطاب تعبوي داخلي، لا تخفي حقيقة أن فرنسا تعيش اليوم أزمة “شرعية وثقة” عميقة، وأن معاركها الخارجية ليست سوى انعكاس مباشر لفشلها في معالجة أزماتها الداخلية. لم يكن التصعيد الفرنسي تجاه الجزائر في الأشهر الأخيرة سوى محاولة للهروب من أزمة اقتصادية خانقة تعصف بالداخل الفرنسي. فالمؤشرات كلها تؤكد أن فرنسا تواجه واحدة من أصعب مراحلها منذ عقود: ارتفاع نسب التضخم، تراجع القدرة الشرائية، وغلاء أسعار المواد الأساسية والطاقة، وهي عوامل جعلت المواطن الفرنسي يعيش حالة ضيق متزايدة. هذا الوضع جعل الحديث عن “الأزمات الخارجية” أداة لتخفيف الضغط الداخلي، عبر تحويل النقاش بعيدا عن معاناة الشارع اليومي. الأزمة لم تتوقف عند حدود الأرقام الاقتصادية، وانعكست على حياة المواطن بشكل مباشر. فأسعار الوقود والكهرباء سجلت زيادات متواصلة، في وقت فرضت فيه الحكومة سياسات تقشفية بحجة تقليص العجز المالي. هذه الإجراءات، بدل أن تساهم في استقرار الوضع، أججت الاحتجاجات وأشعلت نقمة اجتماعية دفعت النقابات العمالية إلى التلويح بإضرابات شاملة. هنا برزت “المعادلة الفرنسية الصعبة”: حكومة عاجزة عن احتواء الأزمة الداخلية، تبحث عن مشجب خارجي تعلق عليه إخفاقاتها. وإلى جانب ذلك، ساهمت أزمة الحرب في أوكرانيا بزيادة الأعباء على الاقتصاد الفرنسي، إذ خصصت باريس ميزانيات ضخمة لدعم كييف، على حساب أولوياتها الاجتماعية الداخلية. فالمليارات التي تُنفق على التسليح والتدخلات الخارجية بدت بالنسبة للشعب الفرنسي وكأنها “هدية للخارج على حساب الداخل”، وهو ما غذى حالة الغضب الشعبي وعمّق الشعور بالغبن. في هذا السياق، تحاول السلطة الفرنسية تمرير رسائل مضادة، تتحدث عن “تهديدات خارجية” وتفتعل معارك جانبية مع الجزائر لتوحيد الرأي العام خلفها. وبذلك، يمكن القول إن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في فرنسا تحولت إلى وقود سياسي يغذي كل مواقف الحكومة. فحين تعجز باريس عن تقديم حلول واقعية، تلجأ إلى توظيف الأكاذيب والادعاءات في ملفات ثنائية كوسيلة للهرب إلى الأمام. ومن هنا يبدو الانتقال منطقيا نحو جانب آخر من المشهد: الأزمة الاجتماعية والسياسية التي تعمّق الشرخ داخل فرنسا.
احتجاجات اجتماعية وانقسام سياسي يتفاقم
وإذا كانت الأزمة الاقتصادية قد أشعلت فتيل الغضب في الداخل الفرنسي، فإنها سرعان ما تحولت إلى أزمة اجتماعية وسياسية متصاعدة تكشف حجم الشرخ داخل المجتمع الفرنسي. فالاحتجاجات التي بدأت بمطالب معيشية محدودة، تحولت إلى مظاهرات حاشدة رافضة لسياسات الحكومة، وخصوصا ما يتعلق بالتقشف ورفع الدعم عن بعض القطاعات الأساسية. وهنا يظهر الرابط: إذ أن “الأزمة الاقتصادية التي أنهكت جيوب الفرنسيين تحولت إلى أزمة شرعية سياسية تهدد استقرار النظام نفسه”. تعبير الشارع الفرنسي عن رفضه لم يعد يقتصر على المظاهرات المتفرقة، وأصبح يتخذ طابعا أكثر تنظيما مع دعوات للإضراب العام في العاشر من سبتمبر المقبل. هذا الموعد المرتقب يُنظر إليه على أنه “منعرج تاريخي” قد يعصف بمستقبل الحكومة الحالية، إذ تستعد النقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني لتعبئة واسعة قد تشل البلاد. وفي ظل هذا التوتر الداخلي، تبدو المناوشات الخارجية مع الجزائر مجرد وسيلة للهروب من مواجهة استحقاق داخلي يطرق الأبواب بقوة. إلى جانب ذلك، فإن الانقسام السياسي داخل فرنسا يتعمق مع كل قرار تتخذه الحكومة. فتمويل الحرب في أوكرانيا والدعم غير المشروط للكيان الصهيوني أصبحا عنوانين للجدل الداخلي الحاد. المعارضة تتهم السلطة بـ”إهدار الأموال العامة في معارك لا تعني المواطن الفرنسي”، بينما تتجاهل الأزمات الداخلية الملحة. هذه السياسات أضعفت الثقة بالحكومة وأعطت زخما إضافيا للاحتجاجات، التي باتت تجمع بين تيارات مختلفة، من اليسار الاجتماعي إلى اليمين القومي. وفي هذا السياق، يمكن فهم لماذا تلجأ باريس إلى افتعال ملفات مع الجزائر. فخلق أزمة خارجية يمنح السلطة فرصة لإعادة توجيه الرأي العام نحو “خطر خارجي”، ويخفف الضغط عن الداخل المشتعل. لكن هذه الاستراتيجية سرعان ما تنكشف، إذ يرى كثيرون أن “التصعيد مع الجزائر ليس سوى انعكاس لعجز داخلي”، وأن فرنسا، بدلا من مواجهة الحقائق الصعبة، تختار سياسة الإلهاء.
سياسة الإلهاء الفرنسية
وإذا كانت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية قد وضعت الحكومة الفرنسية في مأزق داخلي متفاقم، فإن اللجوء إلى الجزائر يأتي امتدادا لنمط سياسي قديم تستعمل فيه باريس “الملف الجزائري” كأداة إلهاء للرأي العام. فكلما تعمقت الأزمات في الداخل الفرنسي، اشتدت الحملات ضد الجزائر، وكأنها صمام أمان للهروب من مواجهة الاستحقاقات الداخلية. الجزائر، بتاريخها الثوري وعلاقاتها المتوترة مع القوة الاستعمارية السابقة، تمثل ورقة للتوظيف السياسي في الخطاب الفرنسي. فالمزايدة ضد الجزائر، سواء عبر ملفات الهجرة أو التأشيرات أو الاتفاقيات الثنائية، تُستعمل لتغذية خطاب شعبوي يهدف إلى صرف الأنظار عن الأوضاع الداخلية المتأزمة. وما حدث مؤخرا بإعلان تعليق اتفاق 2013 دليل واضح على هذا الأسلوب، حيث اختارت باريس لحظة حساسة مرتبطة بموعد احتجاجات سبتمبر لتضخ “جرعة توتر خارجي” تخفف من الضغط الداخلي. تصريحات لويزة حنون جاءت لتضع النقاط على الحروف: ما يحدث ليس سوى “تحرش وتكالب فرنسي” على الجزائر في وقت تمر فيه فرنسا بـ”أزمة اقتصادية واجتماعية قاتلة”. فالربط بين الخطوات الفرنسية وبين الانفجار الاجتماعي المتوقع في الداخل الفرنسي يكشف أن الأمر أبعد من خلاف دبلوماسي؛ إنه جزء من استراتيجية لتصدير الأزمة وصرف الأنظار عنها. غير أن هذه السياسة، بدل أن تحقق أهدافها، باتت تفقد فعاليتها مع مرور الوقت. فالمواطن الفرنسي أصبح أكثر وعيا بأن مشاكله الحقيقية تكمن في السياسات الاقتصادية والاجتماعية لبلاده، لا في خلافات باريس مع الجزائر. وفي المقابل، فإن الجزائر أصبحت أكثر حزما في الرد على مثل هذه المناورات، ما يضع باريس أمام مرآة فشل مزدوج: داخليا أمام شعبها، وخارجيا أمام شريك سيادي يرفض أن يكون أداة إلهاء.
الجزائر ترد بسيادة ووضوح
الرد الجزائري منذ بداية الأزمة مع فرنسا، كان خطوة تكشف عمق التوتر القائم بين البلدين وتوضح حجم الهوة في المقاربات. فبينما لجأت باريس في كل مرة إلى سياسة “التضليل الإعلامي” وإلقاء المسؤولية على الجزائر، جاء الرد الجزائري صريحا وموثقا، مؤكدا أن الأكاذيب الفرنسية لا تعدو أن تكون محاولة للهروب من واقع مأزوم. الجزائر أوضحت في أكثر من مناسبة أن الأزمة في سلوك فرنسي متكرر يقوم على خرق الالتزامات ومحاولة فرض رواية أحادية. وهذا ما يجعل الموقف الجزائري اليوم أكثر حزمًا: لم يعد الحديث فقط عن قضية تأشيرات أو إجراءات دبلوماسية محدودة، بل عن ضرورة إعادة صياغة العلاقة على أسس جديدة، بعيدًا عن منطق الوصاية والتلاعب السياسي. هذه الرسالة تحمل دلالات سيادية قوية، إذ تعلن الجزائر أنها لم تعد تقبل أن تكون طرفا في لعبة الإلهاء الفرنسية. إلى جانب ذلك، فإن الجزائر تسعى من خلال خطابها الحازم إلى مخاطبة الداخل والخارج معا. في الداخل، تؤكد أن الدولة متمسكة بـ”حماية السيادة الوطنية” وأنها لن تسمح لأي قوة خارجية بالمساس بكرامة مؤسساتها وممثليها. أما في الخارج، فهي تبعث برسالة إلى شركائها الأفارقة والدوليين، بأن زمن “الازدواجية الفرنسية” قد ولى، وأن الجزائر لم تعد ذلك الطرف الذي يمكن توظيفه أو استغلاله لأغراض سياسية ظرفية. وبهذا، يتضح أن الموقف الجزائري لم يقتصر على الرد على إشعار فرنسي، بل تجاوز ذلك ليؤكد أن العلاقة الثنائية تمر بمرحلة أزمة ثقة عميقة. ومع كل محاولة فرنسية لقلب الحقائق، يزداد الموقف الجزائري صلابة، بما يعكس إرادة سياسية واضحة في الدفاع عن السيادة ورفض سياسة الإلهاء. وهكذا تجد باريس نفسها أمام معضلة مركبة: أزمة داخلية لا تنطفئ، وأزمة خارجية مع شريك استراتيجي يرفض أن يكون “شماعة” لتغطية إخفاقاتها. وفي ضوء هذه التطورات، يتضح أن الأزمة بين الجزائر وفرنسا لم تعد مجرد خلاف تقني حول اتفاقيات أو ملفات دبلوماسية جزئية، بل تحولت إلى واجهة مكشوفة لصراع أعمق. ففرنسا، العاجزة عن احتواء انفجارها الداخلي، لجأت إلى “افتعال خصومة” مع الجزائر لتصدير أزمتها، بينما الجزائر واجهت الموقف بـ”وضوح سيادي” فضح محاولات التضليل. ومع كل تصعيد فرنسي، يتكرس واقع أن الأزمة الحقيقية تعيشها باريس لا الجزائر: أزمة اقتصادية واجتماعية تهدد استقرارها، وأزمة ثقة تعصف بشرعية حكومتها. في المقابل، رسخت الجزائر صورة الدولة التي ترفض أن تكون شماعة، وأكدت أن زمن الهيمنة قد انتهى، وأن العلاقة الثنائية لن تستقيم إلا على أساس الاحترام المتبادل والسيادة الكاملة. وهكذا، تضع هذه الأزمة باريس أمام معادلة صعبة: إما مواجهة أزماتها الداخلية بشجاعة، أو الاستمرار في سياسة الإلهاء التي لم تعد تنطلي على أحد.