إن من يقرأ تواريخ الأمم الغابرة، لَيجِدُ حقًّا، أن سلفنا الصالح رضي الله عنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس في فتوحهم، وتقويضهم صروح البغي والكفر والفساد، وإقامتهم صروح العدل والرحمة، وصالح الأعمال والأقوال والعقائد والأخلاق، ويجد أن بني إسرائيل كانوا أشد خلق الله كفرًا بأنعم الله، وفسوقًا عن أمره، وانتهاكًا لحرماته، وأبعد خلقِ اللهِ عن الرحمة والعدل والإحسان؛ فقد قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام، وقتلوا غيرهما من أنبياء الله والذين يأمرون بالقسط من الناس، وكم آذَوا موسى الذي جعل اللهُ نجاتَهم من ظلم فرعون وسوء عذابه على يديه وبرسالته. ولقد رموا عيسى رسول الله عليه السلام، وأمَّه الصديقة رضي الله عنها – بأفحش الفاحشة، وأنكر المنكر، واتهموها بالزنا، وافتروا عليه وعلى أمه الصديقة البتول هذه الفِرية التي لا تليق إلا بهم، وبرقابهم الغليظة، وقلوبِهم التي هي أشد قسوة من الحجارة، ولم يعبأ عيسى عليه السلام، ولا العقلاء الذين اتبعوه، بإشاعتهم هذه الفاحشة، ولولا أن الله طهر عبده ورسوله عيسى من أيديهم الأثيمة الرجسة، ورفعه إليه، وألقى شبهه على واحد منهم، لنفذوا فيه الحكم القاسي أشد القسوة، وهم إلى الآن يعتقدون أن الذي قتلوه وصلبوه هو عيسى رسول الله عليه السلام، ثم أغروا النصارى باعتقاد ذلك، وباعتقاد قداسة قتله وآلة قتله، والخشبة التي عُذِّب عليها، فلا شك أنهم يحملون إثم قتل عيسى بما يعتقدون ويدينون إلى اليوم وبعد اليوم. فعاقبهم الله على كفرهم الشنيع، وبغيهم الفظيع في قتل زكريا ويحيى من قبلهما، ومَن بعدهما من الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، بأن سلط عليهم الآشوريين والكلدانيين، مرة هؤلاء ومرة أولئك، “فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ”؛ أي: لم يتركوا مدينة ولا قرية إلا دخلوا قصورها ودورها ومعابدها، يقتلون وينتهكون الأعراض، ويأسرون ويغنمون، ولم يتركوا أرضًا زراعية، ولا بستانًا ولا مصنعًا، إلا خربوه وسلبوا ما فيه من آلات ومنتوجات، وقتلوا وأسروا من فيه. ” وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً “، حقق الله به ما وعدهم على كفرهم وفسوقهم، وعصيانهم وتمردهم، واستكبارهم على الله ربهم، وعلى هداه وشرائعه ووصاياه، فلم يُغْنِ عنهم أحبارهم ولا رهبانهم ولا أموالهم.