“عين الشفا”.. من أبرز المعالم التي تزخر بها ولاية سكيكدة ومواقعها الطبيعية النادرة، والتي حجزت لنفسها مكانة لا تتزحزح وبقيت على مر العصور جزءا من التراث الثقافي اللامادي المحلي الذي ظلت الأجيال تحتفظ به في ذاكرتها الجماعية، وتميزت عن غيرها من المواقع بتخليد الأهالي لها في أساطيرهم وقصصهم التي تناقلوها جيلا بعد جيل، بل وتعلقت ببعض الممارسات المنبعثة من معتقداتهم الشعبية، و”عين الشفا” من أهم 20 عين طبيعية التي تتدفق من بين قلب الصخور الصلبة ومن داخل المغارات من عمق الجبال الشامخة، هذه العيون منها ما هو مستغل ومنها ما هو غير مستغل، ولكل عين قصة، كما هو الأمر مع “عين الزويت” التي خلدها الرومان، و”عين كاف أونار” بأولاد احبابة، التي استغلها الرومان لطرد النحس و”عين قشرة” التي يتدفق ماء عذب من بين صخورها، و”عين الدولة” بالقل التي تعود إلى الحقبة التركية والشافية من عقم النساء.
“عين الشفا” والبحارة ترابط تاريخي وسر أسطوري
الشفاء… ارتبط باسمها وهو ما يأمله زوارها منها، هي عين مباركة تجسد البركة الربانية بالمصطلح المحلي في علاج العديد من الأمراض المستعصية، وتعود قصتها إلى الحقبة الرومانية الأولى، وتتواجد داخل مغارة في كهف مطل على البحر، يتميز ببرودة تمنحك إحساسا بالإنتعاش والراحة، ورغم أن الولوج إلى داخله يتم بصعوبة، وتقول الأسطورة المحلية إن الرومان ومن بعدهم الفينيقيون، إضافة إلى الأتراك، قدسوا العين تقديسا لأنها حسب اعتقادهم، كانت تمنحهم جميل الحظ وحسنه، فكان البحارة من الأتراك يذهبون إليها ليرتووا من عذب مائها ينهالون منها كلما عزموا على امتطاء عباب البحر وخوض غماره، وحسب ما يقوله البحارة القدماء الذين احترفوا الصيد بميناء سطورة منذ زمن إن قدماء البحارة كانوا قبل شروعهم في اصطياد السمك يتوجهون إلى حيث توجد تلك العين، فينهالون منها، ثم يقومون بعدها بسكب الماء الذي يخرج من المغارة على قواربهم وسفنهم بسبب اعتقادهم بأن مياه تلك العين ستمنحهم الحظ السعيد وتحميهم من عواصف البحر ومن عين الحسود، كما تمكنهم من العودة بصيد وافر، وهو ما لا يؤمن به الصيادون من الجيل الحالي، وهو ما يؤكده الشباب من الصيادين الذين يؤمنون بأن الأرزاق من الله وأن قصص عين الشفا أسطورة قديمة…
البركة وحسن الطالع مقصد العائلات
بركة “عين الشفا” جعلتها مزار العائلات السكيكدية، خاصة في فصل الصيف، وحسب ما تحتفظ به الذاكرة الجماعية لأهل وسكان منطقة عين الشرايع، فإن هذه العين التي تتموقع داخل المغارة كانت مقصدا منذ الزمان البعيد للعديد من العائلات ممن كانوا يرغبون في التبرك بمياهها المنعشة العذبة العجيبة التي تتميز بمذاقها الطبيعي العذب، والغريب في قصة هذه العين أنه بمجرد إخراج الماء من المغارة يصبح مالحا غير قابل للشرب، وهو ما يعزز مفهومها العجيب وهذه الحقيقة يؤكدها كل من زارها، هذا ما قاله لنا العديد من الشباب ممن تمكنوا من الدخول إلى عمق المغارة، ومنهم الشاب ناصر 22 سنة، الذي أكد الحقيقة الغريبة التي اكتشفها عن ماء العين، حيث قال لنا بأن الماء داخل المغارة حلو، لكن بمجرد تعبئته داخل قارورة وإقفالها بإحكام وإخراجه منها يصبح شديد الملوحة…
.. وللعلاج مكان في عين الشفا
أما عن سر تسميتها بـ “عين الشفا” فيعود إلى الميزة التي تميزها عن غيرها من العيون والمنابع كون مياه تلك العين التي شكلتها الطبيعة على مر العصور داخل الكهف، جعلت العديد من الناس يقصدونها للتداوي من العديد من الأمراض كـ “الروماتيزم” وأمراض الجلد، بل تعدى ذلك بكثير إلى درجة هناك من يستعمل مياهها للتداوي من العقم أو طرد النحس والعين والسحر وحتى لجلب العرسان بالنسبة للفتيات الشابات، وما تزال العديد من الطقوس مستمرة إلى يومنا هذا وتمارس على مستوى هذه المغارة على الرغم من صعوبة الولوج إليها، حيث تتطلب مهارة في السباحة كونها تقع في البحر، لكن هناك من يغامر بنفسه ومن الجنسين من أجل التبرك بمياهها التي يعتبر الوصول إليها بوابة المستقبل ومفتاح تحقيق الأماني.
صعوبة الوصول أصل البركة
والغريب في الموضوع أن السكان أرجعوا صعوبة الدخول والوصول إليها إلى بركتها، وهو ما ترسخ لدى العديد من أهالي المنطقة وما جاورها، فكرة القدرة العجيبة لتلك العين في كل من يستحم أو ينهل من مياهها.. وحسب ما يتردد في الذاكرة الجماعية لأهالي المنطقة، فإن العديد من النساء العاقرات وبعد سنوات من معاناتهن من العقم، وبعد أن يشربن من ماء “عين الشفا” يرزقن بأولاد، بل هناك من رزقهن الله بتوائم دفعة واحدة. وحسب بعض البحارة على مستوى ميناء سطورة، أكدوا لنا أن العديد من أهالي عين الشرايع ما زالوا إلى يومنا هذا يؤمنون بحقيقة هذه الأسطورة المحلية، خاصة في أوساط النساء لأنهن الأكثر اعتقادا بمثل هذه القصص التي تظل محفورة في ذاكرتهم والدليل أن مغارة “عين الشفا” تشهد في كل فصل صيف تدفقا لعدد كبير من العائلات برفقة بناتهن ممن ترغبن بتعجيل الزواج أو الإنجاب أو حتى جلب الحظ وحسن الطالع، فتقوم بعض العائلات بالتوجه إلى المغارة بواسطة قوارب صيد أغلبها تنطلق من ميناء سطورة أو من الميناء الفينيقي القديم بوادي بيبي القريب من المغارة، ثم يلجأون إلى داخلها بالإعتماد على السباحة، وعندما يصيرون بالقرب من العين التي تتدفق من الصخر على شكل عين صغيرة يشربون منها كميات، ثم يعودون أدراجهم… طبعا مع عدم إمكانية الأخذ من مائها لأنه يصبح مالحا فور الخروج منها.
تراث مادي بحاجة لدراسة معمقة
وما تزال “عين الشفا” من أهم الأماكن الطبيعية التي لم تنل حظها من الإهتمام والرعاية ؛ مثلها مثل الشواطىء المحيطة بها كشاطئ عين الشرايع وشاطئ وادي بيبي وغيره من الكنوز الطبيعية التي تمثل تراثا ماديا ولاماديا، وهو ما يؤكد حاجة ولاية سكيكدة إلى دراسات معمقة ومستفيضة من قبل المختصين سواء في التاريخ و التراث أو في الطبيعة من أجل إزالة اللثام عن العديد من العادات والتقاليد التي أضحت لسبب أو لآخر، مهددة بالزوال والعمل من أجل تدوين كل ما له علاقة بالتراث لأنه ذاكرة منطقة سكيكدة، إضافة إلى حاجة هذه المناطق إلى مشاريع ومجهودات من أجل رعاية وتجهيز مناطقها وجعلها أقطابا سياحية تضاهي أهم الأقطاب وطنيا و لمَ لا عالميا.
ل. ب





















