-
خارطة طريق جديدة ترتكز على التسيير الذكي بدل سياسة التقشف
-
القطاعات الحيوية تحت المجهر: طاقة ، فلاحة وصناعة من أجل تنمية شاملة
-
خدمة المواطن وتعزيز الثقة الإجتماعية في صدارة الأولويات الحكومية
حين أكد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في اجتماع مجلس الوزراء الأخير أن “الجزائر لا تسير بالتقشف بل بالتسيير الذكي”، بدا وكأنه يرسم خطا فاصلا بين ذاكرة الماضي القريب المثقلة بإجراءات شدّ الحزام وبين مرحلة جديدة قوامها استغلال الإمكانات بفعالية وابتكار. فالتقشف الذي ارتبط في الوعي الجماعي بأزمات التسعينيات و “تخويفات” ما بعد أزمة 2014، لم يعد خيارا مطروحا في بلد يمتلك اليوم احتياطات معتبرة من العملة الصعبة ومشاريع استراتيجية قادرة على دفع النمو. التحدي الحقيقي بات في كيفية إدارة هذه الموارد بحكمة، من خلال ترشيد النفقات، محاربة البيروقراطية والفساد، وتوجيه الاستثمارات نحو القطاعات الحيوية. إنها معادلة دقيقة تسعى الجزائر من خلالها إلى تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية دون أن يدفع المواطن الثمن، في أفق طموحها للالتحاق بمصاف الدول الناشئة.
ليس ببعيد، وفي أعوام ما بين 2015 و2019، بدا أن الحكومة تحت قيادة الوزير الأول أحمد أويحيي استخدمت خطابا يميل إلى التأكيد على ضرورة التحمل وتقليل الكلفة الاجتماعية للدولة، وأحيانا تم تحذير المواطنين من مخاطر الإفلاس أو الأزمة المالية. هذا الخطاب، وإن لم يكن دومًا تم التعبير عنه بصراحة مفردة “تخويف بالإفلاس”، إلا أن السياق الاقتصادي، مع تذبذب أسعار النفط، وتراجع الإيرادات، وسعي الدولة إلى إصلاحات مالية، رسّخ شعورا عامّا بأن المواطن يجب أن يكون مستعدّا لفترات من التضييق المالي.
وعند المقارنة مع الخطاب الراهن الذي تبناه رئيس الجمهورية في اجتماع مجلس الوزراء الأخير، يتبيّن تحوّلٌ ملحوظ في النبرة والرؤية: فبدلا من المواجهة بصور “التقشف” أو “الإفلاس”، يتم الآن التأكيد على التسيير الذكي — أي إدارة الموارد بكفاءة، والابتعاد قدر الإمكان عن فرض أعباء مباشرة على المواطن، والسعي لإحداث نمو اقتصادي واجتماعي تستفيد منه جميع الفئات.
هذا التغيير ليس فقط في الخطاب بل يُفترض أن يكون في المنهج: فحينما كان يتم التركيز سابقًا على خفض النفقات والاعتماد على إجراءات تقشفية لتجاوز الضائقة المالية، يظهر الآن اهتمام متزايد بخارطة طريق تطمح إلى تحقيق تنمية نوعية، خدمة المواطنين، وإحداث مؤشرات ملموسة تُقيّم الأداء الحكومي بناءً على نتائج وليست فقط تصريحات.
“التسيير الذكي” لا يمكن أن يكون مجرد شعارٍ أرضيته الحُسن نية، وإنما يجب أن يُقترن بإجراءات ملموسة: سياسة مالية واضحة، تخطيط استثماري دقيق، رقابة وطنية على النفقات، وتوجيه الدعم الاجتماعي لمن يستحقه، مع إشراك الشعب والمجتمع المدني في تقييم الأداء. فالماضي لا يُمحى بسهولة، ولكن الدراسة من أخطائه يمكن أن تمنح الرؤية الجديدة مصداقية تُطمئن المواطن بأن الفوارق بين الأمس واليوم ليست في الأسماء إنما في المضمون.
التسيير الذكي كمدخل للتنمية الاقتصادية
التسيير الذكي يمثل في جوهره تحولًا في فلسفة إدارة الاقتصاد الوطني. فبدلًا من الاعتماد على حلول تقشفية تقليدية تقوم على تقليص النفقات وتجميد المشاريع، يقوم التسيير الذكي على مبدأ ترشيد الموارد وتوجيهها نحو الأولويات الإستراتيجية. وهذا يعني أن الجزائر لن تتخلى عن الإنفاق العمومي، لكنها ستعيد النظر في كيفية توجيهه بما يخدم التنمية المستدامة ويحقق مردودية ملموسة.
من بين أهم أدوات هذا التسيير الذكي، التركيز على محاربة الاستيراد العشوائي وتشجيع الإنتاج المحلي. فالتجربة بينت أن جزءًا معتبرًا من العملة الصعبة كان يُهدر في استيراد سلع استهلاكية يمكن تصنيعها محليًا، أو سلع كمالية لا تعكس حاجة حقيقية للمجتمع. اليوم، يسعى المشروع الرئاسي إلى قلب المعادلة: تقليص فاتورة الاستيراد، وتعزيز قيمة الصادرات خارج المحروقات، بما يجعل الميزان التجاري أكثر توازنًا.
كما يشمل التسيير الذكي تسريع مسار الرقمنة في القطاعات المالية والإدارية. فاعتماد أنظمة دفع إلكتروني، وربط الإدارات بقاعدة بيانات موحدة، من شأنه أن يقلل من كلفة التسيير البيروقراطي ويحد من الفساد، وهو ما يترجم مباشرة إلى توفير موارد يمكن توجيهها للاستثمار. فالاقتصاد العصري لم يعد يقاس فقط بحجم المشاريع المادية، بل أيضًا بمدى ذكاء الإدارة في إدارة الموارد البشرية والمالية.
إلى جانب ذلك، فإن التسيير الذكي يقتضي الموازنة بين الاستثمارات الكبرى والمشاريع ذات الأثر المحلي المباشر. فالمواطن ينتظر نتائج ملموسة في حياته اليومية، مثل تحسين النقل، الصحة، والتعليم، بينما تسعى الدولة في الوقت نفسه إلى إنجاز مشاريع استراتيجية كبرى في الطاقة والفلاحة والصناعة. والتحدي هنا هو خلق توازن بين الطموح الوطني على المدى الطويل والاستجابة الفورية لانشغالات المواطن، وهو ما يجعل من التسيير الذكي معادلة دقيقة بين الحاضر والمستقبل.
القطاعات الاستراتيجية تحت المجهر
حين يتحدث رئيس الجمهورية عن التسيير الذكي كبديل للتقشف، فإن المقصود لا يقتصر على تحسين أسلوب إدارة النفقات العامة، بل يتعداه إلى إعادة ترتيب الأولويات القطاعية. فالموارد الوطنية، مهما بلغت وفرتها، لن يكون لها أثر إذا لم تُوجّه نحو قطاعات استراتيجية قادرة على خلق الثروة ومضاعفة القيمة المضافة. وفي هذا السياق، برزت قطاعات الطاقة، الفلاحة، الصناعة، التعليم، والصحة كأركان أساسية في رؤية الدولة لمستقبل الجزائر.
في قطاع الطاقة، تواصل الجزائر الاستثمار في مشاريع المحروقات التقليدية بالتوازي مع التوجه نحو الطاقات المتجددة، وعلى رأسها الطاقة الشمسية. التسيير الذكي وهذا يقوم على مبدأ تنويع مصادر الطاقة وزيادة عائداتها، بدل الاقتصار على بيع الخام بأسعار خاضعة للتقلبات الدولية. فالانتقال الطاقوي أصبح شرطًا أساسيًا لأي دولة تطمح إلى مصاف الدول الناشئة.
أما قطاع الفلاحة، فقد تحوّل إلى أولوية قصوى في ظل رهانات الأمن الغذائي العالمي. التسيير الذكي للفلاحة يعني استغلال الأراضي الواسعة في الجنوب، إدخال تقنيات الري الحديثة، وتشجيع الشراكات الدولية لنقل التكنولوجيا. والهدف هو تقليص فاتورة استيراد القمح والحبوب والاعتماد أكثر على الإنتاج الوطني. وهو رهان يندرج في إطار “التسيير الذكي للموارد المائية والزراعية”، بعيدًا عن الحلول السهلة المتمثلة في الاستيراد المكثف.
وفي الصناعة، يتمحور التسيير الذكي حول الاستثمار في المشاريع المنتجة ذات المردودية، بدل الانشغال بمصانع التركيب التي أثبتت محدوديتها في الماضي. فالمطلوب اليوم هو خلق صناعة وطنية قادرة على المنافسة والتصدير، من خلال دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتشجيع الابتكار. وهو توجه يعكس قناعة بأن التنمية لا تتحقق فقط بالمشاريع العملاقة، بل أيضًا عبر نسيج اقتصادي متوازن.
إلى جانب ذلك، تظل الصحة والتعليم من أكثر القطاعات حساسية لدى المواطن. والتسيير الذكي لهذين القطاعين يعني توجيه الموارد لتحسين الخدمات الأساسية وضمان تكافؤ الفرص، بدل الاكتفاء بترقيعات سطحية. فالتعليم مطالب بمواكبة العصر الرقمي وربط المناهج بسوق العمل، فيما تحتاج الصحة إلى استثمارات ترفع من مستوى التكفل وتقلل من لجوء المواطنين إلى الخارج. كل هذه الاختيارات تعكس جوهر التسيير الذكي: استغلال الموارد حيث يكون أثرها أشمل وأعمق.
البعد الاجتماعي… خدمة المواطن كأولوية
من بين أهم الرسائل التي حملها اجتماع مجلس الوزراء الأخير، تأكيد رئيس الجمهورية على أن انشغالات المواطن توضع في أولوية الأولويات. هذا التصريح يترجم جوهر فلسفة “التسيير الذكي” التي تقوم على جعل الإنسان محور التنمية. فالمواطن ليس مجرد متلقٍّ للقرارات، وإنما هو المستفيد الأول من نتائجها، وهو أيضًا معيار نجاحها أو فشلها في الميدان.
التجارب السابقة أظهرت أن السياسات المبنية على التقشف كثيرًا ما أدت إلى تآكل القدرة الشرائية وتراجع الخدمات العمومية، ما فتح المجال أمام تنامي السخط الاجتماعي. اليوم، تسعى الدولة إلى كسر هذه الصورة عبر ضمان استمرار الدعم الاجتماعي للفئات الهشة، وتوجيهه بذكاء نحو المستحقين الفعليين، بدل أن يظل مشتتًا أو غير عادل في توزيعه. هذه المقاربة تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية مع الحفاظ على التوازن المالي، وهو ما يُعتبر تحديًا مزدوجًا لأي حكومة.
كما أن خدمة المواطن لا تقتصر على الدعم المالي المباشر، بل تشمل تحسين نوعية الخدمات في التعليم، الصحة، النقل، والسكن. فالتسيير الذكي يعني الاستثمار في المشاريع ذات الأثر الاجتماعي المباشر، التي يشعر بها المواطن في حياته اليومية. فتح مدرسة جديدة في منطقة نائية، تجهيز مستشفى بمعدات حديثة، أوإصلاح شبكة نقل حضري؛ كلها أمثلة على قرارات قد تبدو صغيرة لكنها تعكس فعليًا فلسفة “العمل الميداني” التي شدد عليها الرئيس.
إلى جانب ذلك، فإن تعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع يشكل جزءًا أساسيًا من البعد الاجتماعي للتسيير الذكي. فالمصداقية التي أشار إليها الرئيس لا تُبنى بالخطابات وحدها، بل من خلال نتائج ملموسة وشفافية في عرضها. حين يرى المواطن أن انشغالاته في النقل أوالأسعار أوالصحة وجدت حلولًا عملية، تحقق الثقة، وتعزز الجبهة الداخلية، لتصبح السياسة الاجتماعية ليست مجرد تكلفة على الخزينة، بل استثمارًا في الاستقرار والتنمية على المدى الطويل.
الجزائر ومصاف الدول الناشئة… من الطموح إلى التنفيذ
حين شدد رئيس الجمهورية على أن هدف المشروع الوطني هو بلوغ الجزائر مصاف الدول الناشئة، فإن هذا الطموح يعكس تحوّلًا في الرؤية الاستراتيجية للدولة. الهدف أصبح الانتقال إلى مرحلة نوعية من التنمية الشاملة. لكن الوصول إلى هذا الهدف يتطلب أكثر من الإرادة السياسية؛ يحتاج إلى خطة متكاملة، وآليات تنفيذ صارمة، ومؤشرات متابعة دقيقة تُقيَّم دوريًا.
إن الالتحاق بنادي الدول الناشئة يقتضي أولًا تنويع الاقتصاد والتقليل من التبعية للمحروقات. هذا المسار بدأ بالفعل عبر تشجيع الصادرات خارج قطاع النفط والغاز، وتطوير قطاعات الفلاحة والصناعة والسياحة. غير أن التحدي الحقيقي يتمثل في استدامة هذه الجهود وتوفير بيئة استثمارية مستقرة وشفافة، قادرة على استقطاب الرأس المال الوطني والأجنبي. فالتسيير الذكي هنا يعني تهيئة مناخ أعمال تنافسي بدل الاكتفاء بالشعارات.
كما أن بلوغ الجزائر مرتبة الدول الناشئة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقدرتها على الاستثمار في رأس المال البشري. فالتعليم الجيد والتكوين المستمر والبحث العلمي هي مقومات أساسية لأي اقتصاد صاعد. بدونها، تبقى الطموحات حبيسة الخطط الورقية. من هنا تأتي أهمية الإصلاحات التي تمس المدرسة والجامعة وسوق العمل، باعتبارها القاعدة التي تُبنى عليها النهضة الاقتصادية والاجتماعية.
كما لا يمكن تجاهل البعد الجيوستراتيجي في مشروع الجزائر للتحول إلى دولة ناشئة. فموقعها كجسر بين إفريقيا وأوروبا، وعمقها الإفريقي، ومكانتها في سوق الطاقة العالمية، تمنحها أوراقًا قوية لتعزيز حضورها الإقليمي والدولي. لكن هذه الأوراق لا تُستغل إلا إذا تم استثمارها ضمن رؤية موحدة، تضع التسيير الذكي كأداة لضبط التوازن بين الداخل والخارج، وبين الحاضر والمستقبل. هكذا فقط يمكن للجزائر أن تنتقل من خانة الطموح إلى خانة التنفيذ، وتثبت أنها قادرة على صناعة نموذجها الخاص في التنمية.
م ع