صدى جزائري يتردّد في أروقة الأمم المتحدة من أجل فلسطين

عمار بن جامع صوت الضمير في زمن التدمير

عمار بن جامع صوت الضمير في زمن التدمير
  • المندوب الجزائري.. رمز لإنسانية حاضرة وسط لعبة دولية باردة

  • جزائري في نيويورك… ابن غزة بالوجدان

 

حينما اعتذر عمار بن جامع، المندوب الدائم للجزائر لدى الأمم المتحدة، لشعب غزة بكلمة “سامحونا”، قبل أكثر من ثلاثة أيام داخل مجلس الأمن، لم يكن مجرد دبلوماسي يقرأ بيانا عاديا وإنما إنسانا يصرخ من قلب القاعة باسم الضمير العالمي. وما زال حتى اليوم صدى كلماته يتردد في أروقة السياسة الدولية وعلى ألسنة الشعوب، باعتبارها لحظة نادرة تجرّد فيها ممثل دولة من جفاف الخطاب الرسمي ليمنح الدبلوماسية بعدًا إنسانيًا حقيقيًا.

 

لم يكن المشهد عاديا داخل مجلس الأمن، فقد اعتادت القاعة على لغة جامدة تُدار فيها النقاشات كما لو كانت لعبة سياسية خالية من المشاعر. لكن عمار بن جامع، بصوته الهادئ والمحمّل بالألم، أطلق كلمات أعادت للخطاب السياسي نبرة إنسانية نادرة. حين قال “سامحونا”، لم تكن الرسالة تخاطب زملاءه الدبلوماسيين بقدر ما كانت تخاطب ضمائرهم.

تلك اللحظة بدت أشبه بكسر حاجز الصمت الطويل الذي يخيّم على قاعات الأمم المتحدة. فالمندوب الجزائري منح صوته طابعًا وجدانيًا، جعله أقرب إلى صوت أم فلسطينية ثكلى أو طفل يئن تحت الركام. كان المشهد استثنائيًا بكل المقاييس، لأن القاعة اعتادت أن تكون مسرحًا لخطابات جافة، بينما جاء خطابه كصفعة أيقظت الحضور من سباتهم.

المفارقة أن هذا الخروج عن النص الدبلوماسي لم يُضعف حجته، بل عززها. فحين يخاطب ممثل دولة كبرى مثل الجزائر العالم بلغة الاعتذار للشعب الفلسطيني، فإنه يضع الجميع أمام مسؤولياتهم الأخلاقية. الرسالة لم تكن موجهة للفلسطينيين فحسب، بل إلى المجتمع الدولي بأسره: “أنتم صامتون أمام المأساة”. بهذا المعنى، تحوّل الصوت الفردي إلى مرآة كشفت عجز المنظومة الأممية في لحظة فاصلة.

ومن هنا يمكن القول إن بن جامع لم يكن مجرد سفير يقرأ بيانًا، بل كان شاهدًا يكتب شهادة التاريخ من داخل قاعة القرار الأممي. لقد كسر الحواجز بين الرسمي والإنساني، وأعاد تعريف وظيفة الدبلوماسي: أن يكون صوت من لا صوت لهم، وأن يحوّل الدبلوماسية من حرفة ناعمة إلى صرخة أخلاقية في وجه الظلم. هذا هو ما جعل صوته مختلفًا، وما جعل لحظته تتردد خارج أسوار الأمم المتحدة وتصل إلى القلوب قبل العقول.

 

اعتذار باسم العالم العاجز

اعتذار عمار بن جامع كان موقفًا صادمًا في حد ذاته. فالدبلوماسي عادةً ما يحرص على أن يبرّئ نفسه وبلده من مسؤولية الفشل الأممي، لكن المندوب الجزائري اختار أن يتحدث بلسان العالم أجمع، ليعترف بالعجز الجماعي أمام مأساة غزة. هذا الاعتراف حمل جرأة نادرة، لأنه وضع مجلس الأمن أمام مرآة الحقيقة: أن أقوى هيئة دولية فشلت مرارًا في حماية الأبرياء، وأن صمتها لم يعد يُترجم إلا كتواطؤ مع الجريمة.

لقد كان الاعتذار، في جوهره، إدانة غير مباشرة لجميع الدول التي آثرت الصمت أو وفرت الغطاء السياسي للكيان الصهيوني. فبن جامع لم يوجّه إصبعه نحو جهة بعينها، لكنه جعل كل الحاضرين شركاء في المسؤولية، وكأن لسان حاله يقول: “أنتم جميعًا تتحملون وزر هذا الصمت”. بهذا الأسلوب، نجح في إخراج النقاش من دائرة التلاعب السياسي إلى دائرة المسؤولية الأخلاقية، حيث يصبح كل صوت صامت شريكًا في الجريمة.

ما منح الاعتذار قوته أنه جاء مقرونًا بصور مأساوية رسمها عبر الأرقام: آلاف النساء، عشرات الآلاف من الأطفال، مئات الصحفيين. هذه المقارنة بين عجز مجلس الأمن وبين حجم الخسائر البشرية جعلت الصمت الدولي أكثر فداحة، وحولت الاعتذار إلى صرخة في وجه اللامبالاة العالمية. كانت كلمات الرجل كفيلة بفضح نفاق المجتمع الدولي الذي يتشدق بالحقوق حين يتعلق الأمر ببعض الشعوب، بينما يتخلى عنها حين يتعلق الأمر بفلسطين.

بدا أن بن جامع لم يعتذر فقط للفلسطينيين، بل اعتذر للتاريخ ذاته. وكأنّه أراد أن يسجّل موقفًا أخلاقيًا يقول فيه: “لقد حاولنا، لكننا لم ننجح”. هذا الموقف أعاد إلى الأذهان صورة الجزائر التي لا تكتفي بالتصفيق أو التنديد، بل تواجه الظلم بصدق وشفافية، حتى وإن كان ذلك على حساب الصورة التقليدية للدبلوماسية. لقد جعل من الاعتذار أداة لمساءلة العالم، بدل أن يكون مجرد إقرار بالذنب.

 

لغة الأرقام… ودموع الضحايا

حين يتناول عمار بن جامع الكلمة داخل مجلس الأمن، لا يكتفِ بالتوصيف العام أو الشعارات الفضفاضة، وإنما يلجأ إلى لغة الأرقام الدقيقة. ذكر آلاف النساء اللواتي قُتلن، وعشرات الآلاف من الأطفال الذين أزهقت أرواحهم، والصحفيين الذين سقطوا تحت نيران الاحتلال. هذه الأرقام تحوّلت في خطابه إلى صور دامية تجسّد حجم الفاجعة. لقد أراد أن ينقل المأساة من مستوى الإحصاء إلى مستوى الإحساس، حيث يصبح كل رقم دمعة وكل إحصائية صرخة.

هذا الأسلوب في توظيف الأرقام جعل المستمعين في القاعة في مواجهة مباشرة مع حجم الكارثة. فالحديث عن “18 ألف طفل” يختلف عن مجرد التنديد بقتل الأطفال. الأرقام هنا تحولت إلى شواهد دامغة، تحمل قوة الحجة القانونية من جهة، وقوة التأثير العاطفي من جهة أخرى. لقد مزج بين الدقة التي تفرضها الدبلوماسية وبين الحرارة التي يفرضها الضمير، ليصوغ خطابًا لا يترك مجالًا للالتفاف أو الإنكار.

لكن ما هو أعمق من ذلك، أن الأرقام جاءت مقرونة بعبارات إنسانية مؤلمة مثل “سامحونا”. بهذه المزواجة، بدا وكأن السفير الجزائري يستحضر صورة أم تبحث عن ابنها تحت الركام، أو صحفي يمسك كاميرته في لحظة سقوطه الأخيرة. لقد منح الضحايا المجهولين أسماءً ووجوهًا، عبر تحويل الإحصائيات إلى روايات صامتة لا تحتاج إلى شرح. هذه القدرة على الجمع بين الحسابات الجافة والدموع الحارة منحت خطابه قوة نادرة.

ولعل الأثر الأكبر لهذا الطرح هو أنه جعل من مجلس الأمن ساحة مواجهة مع الضمير. لم يعد بإمكان أي عضو أن يختبئ خلف التعابير الدبلوماسية المحايدة، لأن الأرقام التي نطق بها بن جامع وضعت الجميع أمام واقع لا يمكن التهرب منه. هكذا تحوّلت لغة الأرقام، في يديه، إلى سلاح أقوى من أي بيان سياسي، لأنها كانت محمولة بصدق إنساني جعلها تلامس القلوب قبل أن تطرق أبواب العقول.

 

جزائري في نيويورك… ابن غزة بالوجدان

رغم أن عمار بن جامع يجلس في نيويورك مرتديًا بذلته الرسمية، إلا أن كلماته جعلت المستمعين يشعرون وكأنه قادم من قلب غزة لا من مقر البعثة الجزائرية. لقد بدا في خطابه وكأنه يعيش تفاصيل المعاناة الفلسطينية بكل جوارحه، مستحضرًا مشاهد الدمار والمجازر وكأنه شاهد عيان لا مجرد ناقل أخبار. هذا التماهي العاطفي كشف عن جانب إنساني عميق، جعل منه أكثر من مجرد دبلوماسي يمثل الجزائر، بل “ابنًا وجدانيًا” لغزة وأهلها.

لقد جسّد صورة الجزائر التي لم تفصل يومًا بين هويتها الوطنية ورسالتها الأممية. فمنذ الاستقلال، ارتبطت الجزائر بالقضية الفلسطينية كجزء من ذاكرتها النضالية، وبن جامع لم يخرج عن هذا السياق. غير أنه أضاف لمسته الخاصة، حيث لم يتحدث فقط بلسان الدولة، بل بلسان الإنسان الذي يتألم لألم الآخرين. هذا البعد العاطفي جعل خطابه يلامس مشاعر الفلسطينيين أنفسهم، الذين شعروا أن الجزائر لم ترسل إليهم مجرد سفير، بل صوتًا يشاركهم محنتهم.

المفارقة أن بن جامع تحدث أمام مجلس الأمن، المؤسسة التي طالما فشلت في وقف الحروب، لكنه اختار أن يحوّل المنبر الأممي إلى مساحة وجدانية عابرة للحدود. لقد كان يدرك أن الجدران الإسمنتية للمجلس لن تردع آلة الحرب، لكنه في الوقت ذاته كان يؤمن أن الكلمة الصادقة يمكن أن تكسر صمت العالم. بهذا المعنى، كان خطابه امتدادًا لروح الجزائر الثابتة، التي لا تتعامل مع فلسطين كملف خارجي، بل كقضية بيت داخلي.

صورة “الجزائري في نيويورك” لم تعد تختزل في لقب المندوب الدائم لدى الأمم المتحدة، بل تحوّلت إلى صورة رمزية أوسع: صوت عربي إفريقي إنساني يذكّر العالم بأن غزة ليست بعيدة، وأن المأساة التي يعيشها الفلسطينيون حاضرة في الضمير الجزائري. لقد أعاد رسم معادلة الانتماء: الجغرافيا قد تبعد الأجساد، لكن الوجدان يبقي الشعوب متلاصقة في خندق واحد.

 

 

إنسان قبل أن يكون دبلوماسيًا

ما ميّز عمار بن جامع في خطابه داخل مجلس الأمن لم يكن فقط قوة المرافعة ولا دقة الأرقام، بل الجرأة في أن يخلع، ولو للحظات، عباءة الدبلوماسي الرسمي ليظهر كإنسان يشارك الآخرين الألم. لقد ترك لغة البروتوكول جانبًا وتحدث بلسان الضمير، وكأنه واحد من أبناء غزة الذين يعيشون تحت النار. هذا التحوّل جعل صورته مختلفة عن غيره من المندوبين؛ فبينما اكتفى معظمهم بتلاوة نصوص مكتوبة بعناية، كان هو يعيش كلماته، وكأنها جزء من وجدانه.

 

لقد بدا واضحًا أن بن جامع لا ينتمي فقط إلى المدرسة الكلاسيكية للدبلوماسية، بل إلى مدرسة إنسانية أوسع، تعتبر أن وظيفة المندوب الأممي ليست الدفاع عن المصالح الضيقة، وإنما التعبير عن صوت المظلومين. ففي كل جملة نطق بها، كان يضع نفسه في مكان الضحية، ويستحضر مأساة الأطفال والنساء والمسنين، حتى خُيّل للبعض أنه يتحدث عن أهله لا عن شعب آخر. هذا البعد الإنساني منحه قوة استثنائية، لأنه نقل القضية الفلسطينية من خانة السياسة إلى خانة الأخلاق.

ومع ذلك، لم يكن هذا التوجه تنازلًا عن دوره الرسمي، بل إضافة نوعية له. فالديبلوماسية في النهاية ليست مجرد مفاوضات باردة، بل هي أيضًا فن تمثيل القيم. وعندما قال “سامحونا”، فإنه لم يعبّر فقط عن عجز مجلس الأمن، بل أعاد التذكير بالدور الحقيقي للديبلوماسي: أن يكون ضميرًا للأمم لا مجرد موظفًا في خدمة الموازين الدولية. لقد حوّل الكلمة إلى أداة مقاومة، وجعل من المنبر الأممي مساحة لرفع الصوت بدل الاكتفاء بالاعتراض الخافت.

عمار بن جامع لم يعد مجرد ممثل رسمي للجزائر، بل رمزًا لإنسانية حاضرة وسط لعبة دولية باردة. لقد أثبت أن الدبلوماسي يمكن أن يكون إنسانًا قبل كل شيء، وأن الكلمة الصادقة حين تُقال من القلب، قد تكون أبلغ من ألف وثيقة. بهذه الروح، ترك بصمة يصعب محوها، ورسّخ مكانته كصوت وجداني داخل أروقة الأمم المتحدة، حيث كثيرًا ما يغيب الضمير.

م ع