خلَق الله تعالى الإنسان لعبادته؛ قال تعالى ” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ” الذاريات: 56، وحثَّه على العمل الصالح من أجل عمارة هذه الأرض؛ قال تعالى ” هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ” هود: 61، هذه العمارةُ تشمل كلَّ ما فيه نفعٌ وفائدة للفرد والمجتمع؛ فالمسلم كالغيث، أينما حلَّ نفع، ولا يرتكب ما يخالف هذه العمارةَ إلا مَن انتكست فطرتُه، فاستوى عنده العمَار بالخراب، والإصلاح بالإفساد. لقد سبَق المسلمين كثيرٌ مِن الأمم التي أخذت بأسباب هذا السبق؛ حيث تكاتفت وتعاونت، وأخذَتْ أمورها على محمل الجِد، فأعطاها الله تعالى على قدرِ اجتهادها، حتى ولو كان مقصدها الدنيا فقط، وهذا قانونٌ إلهيٌّ لا يتغير ولا يتبدل؛ قال الله تعالى ” مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ” هود: 15، ولو أننا رجَعْنا بالذاكرة إلى تاريخنا الإسلامي الممتد عبر القرون وقارناه بعهدنا الحالي، لعلِمْنا الفرق الشاسع والبون الواسع بين العهدين، وما نحن فيه الآن من تقصير، والتاريخ ينبئنا أن الحضارةَ الإسلامية علَّمت الدنيا بأَسْرِها في الوقت الذي أطبق فيه الظلامُ على العالم أجمعَ، خاصة أوروبا، فيما يعرف بـ: العصور المظلِمة.
إن عمارةَ الأرض تأخذ صورًا شتى؛ فهي تشمَل الزراعة، والصناعة، واستخراج ما في باطنها من كنوز وثروات، كذلك تشمل إعمال العقل في كلِّ ما يفيد هذه البشرية وتلك الإنسانية، فيحاول هذا الإنسانُ – بما أعطاه الله تعالى من عقل وعلم – أن يحوِّلَ الصحراء القاحلة إلى أرض خضراء ممتلئة بالزروع والثمار، كذلك عليه أن يسبَحَ في الفضاء ليستكشفَ ما به من أسرار، ويعرِف ما يفيده ليفعله، وما يضره ليتجنَّبَه، كل ذلك في إطار مِن التواضع لله تعالى، وعدم العُجْب والغرور بهذا العقل الذي قد يجرُّ صاحبه إلى الدمار والهلاك، ليس له وحده، ولكن للكون كله بما فيه؛ قال تعالى ” حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ” يونس: 24. والذي يتدبَّر السنَّة الشريفة يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّنا على الإعمار والإصلاح في كل وقت وحينٍ؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “ما مِن مسلم يغرِس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”. ولكي يكتملَ إعمار الأرض لا بد مِن العمل الدؤوب لتحقيق ذلك، وقد امتلأ القرآن الكريم بالآيات التي توزعت على الكثير من سوره، اقترن فيها الإيمانُ بالعمل الصالح، الذي يكون مردودُه بالإيجاب على الفرد والمجتمع؛ قال الله تعالى ” إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ” الكهف: 30، بل إن اللهَ تعالى أمَرنا على سبيل الوجوب بهذا العمل؛ قال سبحانه ” وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ” التوبة: 105، إن الجنسَ البشري على وجه العموم مطالَبٌ بإعمار هذه الأرض، والمسلم على وجه الخصوص واجبٌ عليه ذلك؛ مِن الناحية الإيمانية، ومن الناحية الإنسانية، فنفعُ المسلم يتعدَّاه إلى غيره من الناس جميعًا، على اختلاف مِلَلِهم ونِحَلِهم، وهو مطالَبٌ بالتعايش مع البشر جميعًا في إطارٍ مِن التعاون الإنساني، والتعارف الذي لا يُخِلُّ بواجباته نحو خالقه سبحانه وتعالى.
من موقع الالوكة الإسلامي