على عتبة الميترو

على عتبة الميترو

كان يوم عادي ككل أيام السنة  .

يوم لم يتغير فيه شيء بالنسبة لها… سهى عادة ما ترتشف قهوتها صباحا باردة وهي تتخيل دفئها ورائحتها العبقة فتكتفي بتحريك النيسكافي بالماء البارد ..

تحاول كل يوم رفع معنويات نفسها عاليا و تقنع نفسها بأن كل شيء سيتحسن – رغم أنه لا يتحسن – وترمق نفسها في المرآة المكسرة بنظرات لترسم بعض الابتسامة علها تدفئ برودة الشقة في هذا الشهر البارد .

تحمل سهى حقيبتها المليئة بكل الأغراض، قارورة الماء المستعملة مرارا وتكرارا، بسكويت بالقرفة المفضل لها. قلم أحمر الشفاه المفضل لها على الإطلاق، فهو ما يحسن لها الجو ويلون لها يومها.

سهى تستيقظ كل يوم باكرا لكنها لا تنجح في الخروج مبكرا، ففي آخر لحظاتها تبدأ في الإسراع والإضطراب لمحاولة أخذ كل ما تحتاجه واللحاق بالميترو .

تجري كل يوم كعادتها وتؤنب نفسها عن عدم الخروج مبكرا كل يوم تركض هكذا    …

تركض ثم تتوقف لحظات لتعلن هذه الحياة وتمرق كل من يمر عليها بسيارته مسرعا أووووف يا ليتني كنت مكانه لماذا حالتي هكذا؟

محاولة نسيان المشاكل التي تتعرض لها في العمل ونسيان حياتها التي هي على الهامش.

تركض مجددا وتقول هيا أنت أقوى من كل ما مضى. رغم أنها لا تقطن بعيدا عن محطة الميترو، فهي لا تبعد عنها سوى بـ 10 دقائق إلا أنها كل يوم وكعادتها تتأخر في المجيء، فالأرق أصبح رفيقها والتأخر كل يوم أصبح عادتها. تسرع محاولة  اللحاق بالميترو فلم يتبقَ له سوى دقيقة ليصل إلى المحطة والميترو لا ينتظر أحد كما هي الحياة لا تنتظر أحدا، تسرع و تحاول التقاط أنفاسها وترتقب الساعة حتى وفي هذه الأثناء اصطدمت بشاب التقت عيناها بعينيه، في هذه اللحظة سقط كل شيء من يدها وكأن الزمن أراد أن يتوقف للحظة، أرادت إخفاء حقيبتها المهترئة عن نظره لبرهة من الزمن، توقف لبرهة من الزمن ابتسما ببراءة، ابتسامة سريعة طفيفة  وتذمرت سهى أنها لم تزين حالها قبل الخروج .

هي دائما مسرعة لكن لا شيئ يتغير في حياتها سوى الأيام والتواريخ.

تراجعت للوراء ثم تذكرت مرة أخرى أن الميترو على وشك الوصول وهذه المرة أكيد سيفوتها لا محال، دفعته بقوة ونسيت أدواتها، ساعدها الشاب، فالتقطهم بسرعة فائقة وداست على قدمه ليصرخ هو في وجهها “هيي، أنت عمياء حق ما عاونتك”.

تركت شتائمه خلفها ونزلت السلالم مسرعة .

فقد تتأخر عن الميترو، أخذت حقيبتها المليئة جدا وأغراضها ولعنت ذلك الشاب الذي كان السبب في تعطلها.

للأسف صوت الميترو قريب جدا وها هو يتوقف في المحطة اوووووف… صوته يقترب وصوت دقات قلبها تعلو أكثر ..

تجري مسرعة وأصوات كعبها العالي تعلو محطة الميترو وكأنها في عملية مطاردة في  الصباح، الكل يحدق ليبحث عن مصدر هذا الصوت يا للأسف وصل الميترو.

بدأت أبوابه في الانغلاق وذلك الصوت يسبب لها المرارة، فهو يذكرها بوابل السب والشتم والصراخ الذي ستلقاه من مديرها هذا الصباح، فقد أصبح بالنسبة لها وابل السب الذي تتلقاه اليوم والأمس وقبل الأمس وكل يوم تقريبا عادةً.

في هذه الأثناء أنظارها لم تبتعد عن باب الميترو، لتجد يدا تمتد من الداخل وتعطل حركة انغلاق الباب الأوتوماتيكي… آه الباب يفتح من جديد، بعث هذا فيها الأمل مرة أخرى. في هذه الأثناء تتعالى أصوات المسافرين “يا خو رانا روطار متحبسش الناس كامل على جال وحدة مدامة .”

ما إن وضعت سهى أقدامها داخل مقطورة الميترو إلتقطت أنفاسها، ليغلق الباب ممسكا بطرف من شعرها الطويل. الكل يضحك، و مجموعة من الشباب تعلق “على سلامة لالة كون كريتي طاكسي علاش تعطلينا كامل”، لم تستطع سهى تحريك رأسها ولم تستطع تحمل تلك التعاليق .

“بيييي ملي بدوا النسا يخدمو فسدت دزاير النهار كامل وهوما في الزنق ”

لم تبالي بكل ما يحدث، فهي ستصل في الموعد المحدد للحافلة وتصل قبل مسؤولها هذا كل ما كان يشغل بالها.

عندما وصلت سهى للمحطة وتحرر شعرها أرادت أن تدير رأسها لتشرك من ساعدها في اللحاق في الدقائق الأخيرة وتسبب في ضجة داخل الميترو … اه  تتعجب سهى فهو نفس الشاب الذي اصطدمت به ولعنته صباحا حتى أنها ذهبت من دون أن تشكره.

رمقته بنظرات خجل وشكر في آن واحد لينطق هو ألا أستحق الشكر على الأقل .

بالإضافة إلى أنك تسببت في ألم كبير على مستوى رجلي بسبب كعبك العالي وهذا من دون كلمة أسف.

اووووف.. سيدي ابتعد عني قليل

أوف أنا لا أتحمل غضبك ومشاكلك مع الصباح.

زيادة على ذلك ….. أف لا أريد الحديث مع مثل هذه الأشكال

ههه يضحك هو لو كنت تعملين عندي لطردتك منذ زمن.

ترد هي: أنت قليل أدب

يرد هو: أنت مريضة نفسية

لترتفع حدة النقاش بينهما وتتدخل سيدة عجوز لتهدئ الوضع، فالكل في هذا الميترو يحمل جرعة من المشاكل والهموم ما تبقى من الأمس ومن الأيام التي مضت، الكل  يريد أن يشغل ساعات صباحه الأولى بالهدوء قبل أن ينطلق ضجيج المدينة قبل أن تبدأ مشاكل جديدة.

في هذه الأثناء عم الهدوء المكان إلا أن الهدوء في داخل سهى، ذلك الشاب لم يصل بعد .

هي داخل نفسها.. متخلف شأنه شأن الجميع

هو في قرارة نفسه… متكبرة ببف ككل النساء الجاحدات.

بعد مرور زمن وصل الكل إلى المحطة

أراد الجميع الخروج من الباب، فدفعته هي  بحقيبة يدها دفعة خفيفة وينتقم هو ويدوس على رجلها بحذائه .

أسرعت في الصعود إلى السلالم لتبدأ رحلة أخرى من الجري المتواصل هذه المرة إلى الحافلة التي تركبها وتكره جميع من فيها من السائق إلى القابض وجميع المسافرين.

تحاول رفع معنوياتها تصل إلى الحافلة و في طريقها تنظر إلى زجاج نافذة سيارة تتمهل برهة من أجل تفقد ربطة شعرها تعيد تثبيته وتخرج أحمر شفاهها لتثبته هو الآخر، فبدونه لا ترى معالم الجمال في وجهها .

وفجأة ينزل زجاج السيارة أصابتها الدهشة لتتفاجأ بصوت رجل “أختي أحشمي مع صباح ربي، تنسحب وتضحك بداخلها هههههههههههههههههه

تركض مرة أخرى لتجد حافلتها في الانتظار تتنفس بهدوء، فالمعنويات ارتفعت قليلا ربما لن تصل متأخرة هذه المرة .

تضع قدمها في درجة الحافلة لتجد نفس الشخص أوووف أين اذهب أجده

“”راك تبع فيا”، ليرد عليها أنت متكبرة و قليلة الأدب. يتدخل  قابض الحافلة ليفض الشجار الذي لن ينتهي اليوم .

بقي مقعد واحد أسرعت سهى وجلست متجاهلة الشاب .

يخرج عن صمته ويقول “طبعتيني معلش …. رجعتيلي لهدرة معليش… زيدي ديلي بلاصتي اذا تحب نحبط ونخليلك الكار خير “، ليكتفي بعد ذلك بنظرات غضب و تأوهات.

لا مكان في الحافلة، الكل ملتصق، الكل يتأفف، تنطق سهى مرة أخرى “خويا بعد شوي”، هذه المرة لم يرد الشاب بل تكفل القابض بذلك أختي راكي مريحة وتزيدي تهدري معجبكش الحال روحي في طاكسي وهنينا …. “. ساد الصمت بعد ذلك إلا أن نظرات الشاب وسهى لم توحِ بذلك على الإطلاق ….لم تجد سهى سوى أكل بعض القطع من بسكوي القرفة الذي يمنحها حلاوة لمواصلة اليوم .

الحافلة لم تنطلق بعد والقابض ما زال يروح ويجيئ لقبض المال والكل يتأفف منه وفي هذه الأثناء بدأت أصوات المسافرين في الارتفاع منادين السائق بضرورة الإقلاع أو الهبوط من الحافلة، فهذه التصرفات أرهقتهم جميعا، فواحد يصرخ والآخر ينزل ويقسم على ألا يركب هذه الحافلة مرة أخرى والآخر يدق بقطعته النقدية على الزجاج لإزعاج السائق. وتنطق سيدة عجوز من الخلف ألا يوجد رجل بينكم ليتحدث.

انطلقت الحافلة تحت تهديدات المسافرين  تنظر سهى في ساعة الحافلة المهترئة لتطمئن، فالوقت ما زال مبكرا للوصول إلى العمل، بعد ساعة تصل إلى المحطة تنزل وهي متعبة من هذه الرحلة، بعد دقائق تصل مقر عملها وتدخل خلسة، مخافة أن يراها مسؤولها إلا أن مكتبه مغلق أوففف الحمد لله لقد أعفاها اليوم من حملة الصراخ والسب بسبب تأخرها، فهي الوحيدة التي تسمع كل هذا لأن ليس لها من يقف جنبها من الإدارة أو النقابة، فالجميع يتأخر كما يحلو له لأن له سند قوي من الداخل .

فتحت مكتبها في هدوء وجلست في الظلام لترتاح دقائق بعدها دخل المدير صباح الخير سهى سبحان الله معجزة هاقد وصلتي مبكرا اليوم لديك ضيف .

أدارت سهى رأسها ..اه .. ضيف … من

المدير: تفضل بالدخول.. هذا زميلك الجديد

لتتذكر سهى، اه نعم، لقد قال لي سابقا إن هناك زميل سيلتحق بالمكتب و ربما أنا سأحصل على ترقية، فأنا لا أستطيع القيام بكل الأعمال لوحدي … ماذا لو كان هو مسؤولي الجديد وأنا أبقى في حالي هذا ..

تفضل… يجيب الشاب شكرا …

يدخل الشاب ليتفاجآ معا

آه ..هذا أنت

آه… هذا أنت

نعم إنه هو نفس الشاب الذي التقته صباحا في الميترو ثم في الحافلة …

يتبع …

بشرى زهار