-
شركات جزائرية وإفريقية تترجم اللقاءات الثنائية إلى عقود استثمارية واقعية
-
اتفاقيات بملايين الدولارات في قطاعات الكهرباء.. الصيدلة والطاقة
في قصر المعارض بالصنوبر البحري بالجزائر العاصمة، تحولت أروقة معرض التجارة البينية الإفريقية إلى أكثر من مجرد فضاء لعرض المنتجات والتعريف بالعلامات التجارية، إذ بدت وكأنها ورشة حقيقية لصياغة المستقبل الاقتصادي للقارة، حيث اجتمع المئات من الفاعلين الاقتصاديين الأفارقة والدوليين في لقاءات مكثفة أفرزت عقودا بملايين الدولارات ونقاشات استراتيجية فتحت آفاقا جديدة للتكامل. المعرض الذي تستضيفه الجزائر هذه الأيام يعد محطة رمزية تؤكد سعي القارة إلى بناء شراكات فعلية، وتعكس الدور المتنامي للجزائر كجسر يربط بين الأسواق الإفريقية ويمنحها بعدا استراتيجيا في مشروع التكامل القاري.
اتفاقيات بملايين الدولارات.. الاستثمار يتحرك
لم يتأخر المعرض في إثبات طابعه العملي، إذ تحولت اللقاءات الثنائية إلى صفقات ملموسة بمجرد انطلاق الفعاليات. من أبرز ما شدّ الأنظار توقيع اتفاقية تصدير معدات كهربائية جزائرية نحو ساحل العاج بقيمة 100 مليون يورو على مدى خمس سنوات، في خطوة عكست قدرة المؤسسات الجزائرية على دخول أسواق إفريقية واعدة وتثبيت حضورها عبر منتجات ذات تنافسية عالية. هذه الاتفاقية تعد مؤشر على بداية توسع صناعي جزائري يتجاوز الحدود التقليدية. كما برزت الصناعة الصيدلانية كأحد القطاعات الهامة في المعرض، حيث كشف وزير الصناعة الصيدلانية عن عقود مرتقبة بقيمة 400 مليون دولار مع شركاء أفارقة ودوليين. هذا الرقم يعكس من جهة حجم الطلب المتزايد على الأدوية والمنتجات الصحية، ومن جهة أخرى نجاح الجزائر في بناء قاعدة صناعية متينة قادرة على تلبية هذا الطلب. مثل هذه العقود تمنح دفعة قوية لقطاع يعد من القطاعات الاستراتيجية في القارة، خاصة في ظل التحديات الصحية المتكررة. إلى جانب هذه العقود الضخمة، شهد المعرض تفاهمات أولية بين مؤسسات جزائرية وأخرى إفريقية في مجالات متنوعة مثل الزراعة، الخدمات اللوجستية، والنقل. هذه التفاهمات وإن لم تُترجم كلها إلى عقود فورية، إلا أنها تؤسس لشراكات مستقبلية قد تحمل أبعادا أعمق مع مرور الوقت. الأهمية هنا تكمن في أن الجزائر تعرض نفسها كمنصة لتسهيل الربط بين الفاعلين الاقتصاديين، مما يعزز موقعها كمحور للتبادل الإفريقي. هذه الأرقام تحمل دلالات متعددة، فهي من جهة تُظهر أن السوق الإفريقية ليست مجرد فضاء استهلاكي، بل بيئة خصبة للاستثمار المشترك. ومن جهة أخرى، تعكس رغبة الشركات الإفريقية في تنويع شركائها والابتعاد عن الاعتماد المفرط على الموردين من خارج القارة. الجزائر، بفضل بنيتها التحتية وموقعها الجغرافي، تبدو مؤهلة للعب هذا الدور الوسيط. وتكشف هذه الاتفاقيات أيضا عن بعد سياسي غير معلن، إذ أن نجاح الجزائر في جمع هذا العدد من المتعاملين الأفارقة وتسهيل توقيع عقود ضخمة يرسخ صورتها كداعم عملي لمشروع منطقة التجارة الحرة القارية (زليكاف). بمعنى أن الجزائر لا تكتفي بخطاب سياسي داعم للوحدة الاقتصادية، بل تقدم أفعالا تترجم الأقوال إلى نتائج ملموسة. هذه العقود والصفقات هي بمثابة المؤشر الأول على أن المعرض منصة لصياغة توجه اقتصادي جديد. فحجم الأموال المتداولة والقطاعات المستهدفة يؤكد أن الاستثمار في إفريقيا بدأ يتحرك بجدية، وأن الجزائر اختارت أن تكون في صدارة هذا الحراك، كمستضيفة وكمشاركة فاعلة في هندسة هذه الشراكات.
الصناعة الصيدلانية والطاقات.. رهانات استراتيجية
هذا، وبرزت الصناعة الصيدلانية في المعرض كأحد القطاعات الأكثر جذبا للاهتمام، سواء من حيث قيمة العقود أو من حيث الرمزية المرتبطة بقدرة الجزائر على تأمين منتجات صحية عالية الجودة. توقيع عقود بنحو 400 مليون دولار هو رسالة مفادها أن الجزائر تسعى إلى أن تكون قاعدة إقليمية في مجال الأدوية، قادرة على إمداد الأسواق الإفريقية بما تحتاجه من أدوية جنيسة ومستلزمات علاجية. هذا التوجه يعكس إدراكا جماعيا بأن الأمن الصحي لا يقل أهمية عن الأمن الغذائي أو الطاقوي في بناء استقلالية القارة. قطاع الطاقات كان حاضرا بدوره في صلب النقاشات والشراكات. المباحثات الجزائرية–الجنوب إفريقية، التي ركزت على التعاون في مجالي الطاقة والمناجم، جاءت لتؤكد أن الجزائر ترى في هذه القطاعات وسيلة لتعزيز التكامل الإفريقي، خاصة وأنها تمتلك خبرة طويلة في الصناعات الطاقوية عبر شركة سوناطراك وشبكة أنابيبها الممتدة نحو أوروبا. هذه المباحثات هي تمهيد لتعاون مستقبلي قد يشمل مشاريع مشتركة في استكشاف واستغلال الموارد الطبيعية داخل القارة. الأهمية الاستراتيجية لهذه الشراكات تكمن في كونها تستهدف القطاعات التي تمنح إفريقيا قدرا أكبر من السيادة. ففي الوقت الذي تعاني فيه العديد من الدول الإفريقية من تبعية مفرطة للواردات الصحية أو الطاقوية، تأتي هذه الشراكات لتمنح القارة فرصة لتقليص هذا الاعتماد. الجزائر، بما تمتلكه من بنية تحتية صناعية ومؤسسات وطنية قوية، تعرض نفسها كفاعل رئيسي في هذا التحول. وإذا كان الاستثمار في الصناعة الصيدلانية يمثل استثمارا في الإنسان وصحته، فإن الاستثمار في الطاقات والمناجم يمثل استثمارا في القاعدة المادية للتنمية. الجمع بين الاثنين في ذات الفضاء (المعرض) يعكس رؤية متكاملة ترى في الصحة والطاقة أساسًا لبناء اقتصاد متوازن ومستدام. هذا ما يجعل هذه القطاعات تتصدر الأجندة الإفريقية اليوم، في الجزائر، وفي مختلف العواصم الإفريقية. كما أن هذه الشراكات تعكس إرادة سياسية واضحة، فاختيار قطاعات حساسة كالدواء والطاقات يعكس نضجا في أولويات السياسات الاقتصادية. بدل الاكتفاء بقطاعات استهلاكية أو هامشية، يتم التوجه نحو ما يعزز الأمن الاستراتيجي للقارة. وهذا ما يميز معرض الجزائر عن غيره من التظاهرات التجارية، إذ لم يقتصر على مجرد تبادل منتجات، بل ارتقى إلى مستوى التفكير في رهانات وجودية. بذلك، يصبح واضحًا أن الصناعة الصيدلانية والطاقات لم تكونا مجرد قطاعات اقتصادية ضمن جدول الأعمال، بل محاور أساسية في معركة إفريقيا من أجل الاستقلالية والتنمية المستدامة. المعرض أعطى هذه القطاعات مكانتها الطبيعية، وأظهر أن الجزائر واعية بأن بناء قوة اقتصادية إفريقية يبدأ من القطاعات التي لا يمكن الاستغناء عنها، والتي تضمن استقرار المجتمعات ونموها على المدى الطويل.
من قاعات العرض إلى السوق الإفريقية الموحدة
معرض التجارة البينية الإفريقية في أيامه الأربع الأولى بدا وكأنه تجسيد حي لفكرة السوق الإفريقية الموحدة التي تنادي بها اتفاقية زليكاف منذ دخولها حيز التنفيذ. القاعات المزدحمة بالعقود واللقاءات الثنائية جسدت عمليا كيف يمكن تحويل النصوص القانونية والاتفاقيات السياسية إلى مشاريع وصفقات واقعية. وبدا واضحًا أن أرضية المعرض شكلت مساحة اختبار لمدى استعداد المتعاملين الاقتصاديين للاستفادة من هذه السوق العملاقة التي تضم أكثر من مليار نسمة. الجزائر، بموقعها الاستراتيجي كبوابة طبيعية بين إفريقيا وأوروبا، استثمرت هذا المعرض لتقديم نفسها كمنصة لوجستية قادرة على لعب دور محوري في تفعيل السوق القارية. بنيتها التحتية من موانئ وطرق سريعة وخطوط سكك حديدية تعزز موقعها كحلقة وصل، وهو ما يجعلها مؤهلة لقيادة جزء من الدينامية التجارية الجديدة. الحضور المكثف للشركات الإفريقية والدولية أعطى الانطباع بأن الجزائر طرف فاعل في صناعة هذا المشروع الاقتصادي الضخم. إضافة إلى ذلك، أبرزت اللقاءات بين رجال الأعمال والمؤسسات كيف يمكن للمعرض أن يتحول إلى مختبر للتكامل. ففي كل جلسة تفاوضية أو عقد موقع، كانت تظهر مؤشرات على استعداد الشركات لتجاوز الحواجز الجمركية والبيروقراطية، والبحث عن شراكات قائمة على المنفعة المتبادلة. هذا الجانب يعكس نجاح المعرض في تجسيد روح زليكاف التي تهدف إلى تسهيل المبادلات التجارية ورفع حجم التجارة البينية من نسبها المتواضعة الحالية إلى مستويات أكثر تنافسية عالميا. كما كشف المعرض، أن السوق الإفريقية الموحدة هي مشروع اقتصادي يتطلب التدرج والصبر. العقود التي وُقعت في قطاعات مثل الكهرباء، الصيدلة، والطاقات، تُمثل بذورًا أولية لمسار طويل من التبادلات التي ستنمو مع مرور الوقت. الجزائر تدرك أن هذا المسار ليس سهلا، لكنه ممكن إذا ما توفرت الإرادة السياسية والدعم المؤسسي، وهو ما حاولت أن تبرزه من خلال هذه التظاهرة. ولا يمكن إغفال البعد الرمزي الذي حمله المعرض في هذا السياق. فاجتماع المئات من الفاعلين الاقتصاديين من مختلف الدول الإفريقية على أرض الجزائرية عكس صورة قارة بدأت تستعيد ثقتها في قدراتها الذاتية، وتسعى إلى التحرر من القيود التي فرضتها التبعية التاريخية للأسواق الخارجية. السوق الموحدة هنا بدت وكأنها مشروع تحرري بقدر ما هي مشروع اقتصادي. معرض الجزائر، كان مرآة عكست خطوات ملموسة نحو بناء سوق إفريقية حقيقية. من داخل قاعات العرض وفضاءات التفاوض، كانت تتشكل ملامح مشروع قاري واعد، يجد في الجزائر نقطة ارتكاز أساسية. وإذا كان الطريق نحو سوق موحدة ما يزال طويلا، فإن المعرض قدم الدليل على أن البداية قد انطلقت، وأن الجزائر اختارت أن تكون في قلب هذا المسا. في حصيلة أولية لما شهده معرض التجارة البينية الإفريقية بالجزائر، يتضح أن الحدث تجاوز بكثير حدود كونه تظاهرة تجارية عابرة، ليكرس نفسه كمنصة استراتيجية لصياغة مستقبل العلاقات الاقتصادية الإفريقية. العقود المبرمة بمئات الملايين من الدولارات في قطاعات حيوية مثل الصيدلة والطاقة، والحوار المكثف بين المؤسسات الإفريقية، والاستقبالات الرسمية رفيعة المستوى، كلها عناصر أكدت أن القارة قادرة على تحويل خطاب التكامل إلى ممارسة عملية. لقد قدمت الجزائر نفسها، عبر هذا المعرض، كفاعل محوري لا يكتفي بالاستضافة، وإنما يشارك في صناعة القرار الاقتصادي الإفريقي، ويعرض إمكانياته كبوابة ومركز ربط إقليمي. وما بين قاعات التوقيع وممرات التفاوض، تشكلت صورة قارة تسعى إلى الاستقلالية الاقتصادية وإلى بناء شراكات قائمة على المنفعة المشتركة، في خطوة أولى نحو سوق موحدة أكثر قوة وصلابة. وإذا كان الطريق لا يزال طويلاً ومليئا بالتحديات، فإن الدرس الأهم هو أن إفريقيا بدأت تضع اللبنات الأولى لمشروعها الكبير من قلب الجزائر، وبإرادة جماعية تعكس طموحا لمستقبل أكثر سيادة وازدهار.







