-
سلام عادل ودائم لا يتحقق إلا تحت مظلة القانون الدولي
-
من مجلس الأمن.. عطاف يدعو إلى تغليب صوت الحوار على منطق القوة
-
الحروب تستنزف الجميع ولا تنتج سوى الخراب والخسائر
-
المساعي الحميدة والوساطات طريق الجزائر لإخماد بؤر النزاع
حينما وقف وزير الشؤون الخارجية أحمد عطاف أمام مجلس الأمن، وتحدث عن الحرب الروسية الأوكرانية، أعطى في الحقيقة درسا يتجاوز حدود تلك الأزمة ليطال فلسفة الجزائر في التعامل مع الحروب بصفة عامة.
الكلمة التي شدّد فيها على أن “الحوار والتفاوض هو السبيل الوحيد والأوحد” لم تكن مجرد توصيف لحل أزمة أوروبية، وإنما كانت تعبيرا عن قناعة راسخة بأن كل الحروب، مهما اختلفت ساحاتها وأطرافها، لا تخلّف سوى الخراب، وأن الحلول الدائمة لا تُبنى إلا على طاولة التفاوض.
من هنا يبرز جوهر المقاربة الجزائرية التي تجعل من المساعي الحميدة والوساطات الدبلوماسية بديلا عن منطق القوة، وترى في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة الضمانة الوحيدة لبناء سلام عادل ودائم، يخدم الأطراف المتنازعة ويحقق الصالح العام الدولي.
الحوار.. السبيل الوحيد لاختراق جدار الأزمات
تأكيد الجزائر على أولوية الحوار هو انعكاس لرؤية متجذّرة في تاريخها السياسي منذ الاستقلال. فبالنسبة للجزائر، الحوار هو الأصل والقاعدة التي يجب أن تبنى عليها كل مسارات تسوية النزاعات. هذا الموقف عبّر عنه الوزير أحمد عطاف بوضوح حين شدّد على أن “الحوار والتفاوض هو السبيل الوحيد والأوحد”، في إشارة إلى أن أي مسار آخر لا يمكنه أن يُفضي إلا إلى جولات جديدة من التصعيد.
لقد عاشت الجزائر على وقع تجارب مريرة في القرن الماضي، سواء خلال حرب التحرير أو أثناء أزمتها الأمنية الداخلية في التسعينيات، ما منحها قناعة راسخة بأن العنف مهما طال لا يمكن أن يفضي إلى حلول نهائية، وأن أبواب الاستقرار لا تُفتح إلا عبر الجلوس حول طاولة واحدة. هذه التجارب صارت رصيدا دبلوماسيا تستند إليه الجزائر في مواقفها الدولية، لتقدّم نفسها كوسيط محايد يسعى إلى تقريب وجهات النظر بدل فرض الإملاءات.
إلى جانب البعد التاريخي، تعكس هذه المقاربة أيضًا إدراكًا واقعيا لطبيعة الحروب الحديثة. ففي عالم متداخل المصالح، لم تعد الحروب محصورة بين جيوش متقابلة، وأصبحت تنعكس على الشعوب والمجتمعات والاقتصادات بشكل شامل. ومن هنا، يصبح الحوار ضرورة حتمية لأنه وحده الكفيل بصياغة حلول تراعي مصالح الأطراف كافة وتغلق الباب أمام التوسع في رقعة النزاعات.
وبالنسبة للجزائر، لا يكفي أن يُطلق نداء للحوار من أجل رفع العتب، بل يجب أن يُترجم ذلك إلى مبادرات ومساعٍ حميدة تحمل مضمونًا عمليًا، تتيح للأطراف المتصارعة هامشًا للتلاقي وتمنحهم شعورًا بالأمان للانخراط في تسويات عادلة. إن فلسفة الحوار الجزائرية لا تقوم على إقصاء طرف لصالح آخر، بل على إيجاد أرضية توافقية مشتركة تُعيد الثقة بين المتنازعين، وتمنح الأمل لشعوبهم في مستقبل أقل عنفًا وأكثر استقرارًا.
حروب بلا رابحين.. الكل فيها خاسر
وتشددت الجزائر في مقاربتها على أن الحروب لا تُنتج منتصرين، بل ضحايا وخسائر على كل الجبهات. فكل نزاع مسلح، مهما كانت دوافعه أو أهدافه المعلنة، يتحول إلى مأساة جماعية تمتد آثارها لتطال الجنود والمدنيين، البنى التحتية والاقتصاد، وحتى النسيج الاجتماعي للدول. لقد أشار الوزير أحمد عطاف إلى أن “الكل فيها متضررا ولا أحد منتفع، والكل فيها خاسر ولا أحد رابح”، وهي عبارة تختزل جوهر الموقف الجزائري الذي يرى أن أي انتصار عسكري يظل وهميًا إذا ما قورن بالثمن الباهظ الذي يدفعه الجميع.
فالخسائر الإنسانية تبقى الوجه الأكثر إيلامًا للحروب، حيث تُزهق الأرواح وتُشرّد الملايين من أوطانهم، ليتحولوا إلى لاجئين ونازحين يثقلون كاهل الجغرافيا المحيطة بهم. وهذه المأساة لا تعرف حدودًا، إذ تتكرر في كل صراع من سوريا إلى إفريقيا، مرورًا بالحرب الروسية–الأوكرانية التي تظل مثالًا حيًا على مأساة مفتوحة لا تنتهي. إن هذه الأثمان البشرية الفادحة تذكّر العالم بأن الحروب مهما طالت لا تعني سوى نزيف متواصل في رأس المال البشري.
أما الخسائر الاقتصادية، فهي الوجه الآخر الذي لا يقل فداحة. فالحروب تعني تدمير المصانع والطرقات والمزارع، وتعني كذلك تحويل ميزانيات الدول من مجالات التنمية والخدمات الاجتماعية إلى الإنفاق العسكري والتسليح. وبذلك تتحول عجلة الاقتصاد إلى رهينة للمجهود الحربي، في حين تزداد البطالة والفقر، وتتراجع مستويات المعيشة بشكل حاد. وقد رأى العالم في أكثر من ساحة نزاع كيف تحوّلت مجتمعات بكاملها من مسار التنمية إلى دوامة الانهيار الاقتصادي.
ولا تقل الخسائر السياسية والاجتماعية أهمية، إذ تترك الحروب وراءها شروخًا عميقة في المجتمعات، وتزرع بذور الانقسام والكراهية بين الشعوب وحتى بين أبناء الوطن الواحد. هذه الانقسامات قد تستمر لعقود، وتمنع أي إمكانية حقيقية لبناء عقد اجتماعي جديد. لذلك، ترى الجزائر أن أي حديث عن “انتصار عسكري” في ظل هذا الخراب لا يعدو أن يكون وهما عابرا، فيما الحقيقة أن الكل يخرج خاسرًا من دوامة العنف.
التداعيات تتجاوز حدود الجغرافيا
من أبرز ما شدّد عليه الوزير أحمد عطاف أن الحروب لا تبقى محصورة في حدود الدول المتصارعة، بل سرعان ما تتحول إلى أزمات إقليمية ودولية، تُهدّد الأمن الجماعي وتلقي بظلالها على النظام الدولي بأسره. هذه الفكرة تجسّد قناعة جزائرية راسخة بأن العالم اليوم مترابط إلى حدّ يجعل من أي حرب محلية شرارة لاضطرابات عابرة للقارات. وهكذا، تتحول الحروب إلى مصدر تهديد لا يمس الأطراف المباشرة فحسب، بل يمتد إلى دول الجوار، بل وإلى العالم بأكمله.
على المستوى الإقليمي، كثيرًا ما تجرّ الحروب الدول المجاورة إلى دائرة المخاطر، سواء عبر موجات اللجوء والنزوح، أو عبر انتقال العنف والإرهاب، أو من خلال تداعيات اقتصادية وأمنية مباشرة. وقد شهدت إفريقيا على سبيل المثال كيف تسببت النزاعات في منطقة الساحل بزعزعة استقرار دول الجوار، بينما تحولت حروب الشرق الأوسط إلى عامل تفكك إقليمي يُصعّب أي مسعى للتكامل أو التنمية.
أما على المستوى الدولي، فإن التداعيات تصبح أكثر تعقيدًا. فالأزمة الروسية–الأوكرانية، التي استحضرها عطاف كمثال، لم تبقَ شأنًا أوروبيًا صرفًا، وألقت بظلالها على الأمن الطاقوي والغذائي في العالم بأسره. لقد اكتشف الجميع أن الحروب الحديثة لم تعد محصورة في الجغرافيا السياسية، بل باتت تمس الأسواق، أسعار الطاقة، سلاسل التوريد، وحتى الاستقرار الاجتماعي في بلدان بعيدة آلاف الكيلومترات عن جبهات القتال.
إلى جانب ذلك، تخلق الحروب استقطابات سياسية حادة في العلاقات الدولية، حيث تُعاد صياغة التحالفات، وتُفتح جبهات من التوتر بين القوى الكبرى، ما يزيد من هشاشة النظام الدولي. ومن هنا، يصبح صوت الحوار أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، لأنه السبيل الوحيد لإغلاق دائرة التصعيد ومنع الحروب من التحول إلى أزمات عالمية تهدد السلم والأمن الدوليين.
المساعي الحميدة.. سلاح الجزائر في مواجهة النزاعات
حين تتحدث الجزائر عن المساعي الحميدة، فهي لا تطرح شعارًا دبلوماسيًا عامًا، وإنما تقدم نهجًا متجذرًا في تجربتها الدبلوماسية الممتدة منذ الاستقلال. فقد اعتادت الجزائر أن تلعب دور الوسيط الذي يسعى إلى رأب الصدع وفتح قنوات الحوار، انطلاقًا من قناعتها بأن الحرب لا تُحسم في الميدان العسكري بقدر ما تُحسم حول طاولة المفاوضات. هذه المقاربة تعني أن الجزائر تنظر إلى الدبلوماسية كأداة ردع حقيقية، قادرة على إبطال مفعول العنف وإحلال منطق العقل محل منطق القوة.
المساعي الحميدة التي تراهن عليها الجزائر تقوم على تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتصارعة، حتى وإن بدت مواقفهم متناقضة إلى حد بعيد. ففي منظورها، مجرد الجلوس على طاولة واحدة يمثل خطوة أولى لفتح كوة في جدار الأزمة. وقد استحضر الوزير عطاف هذا المنطق حين شدّد على ضرورة “تعزيز آثار وصدى المبادرات الدبلوماسية”، باعتبارها السبيل الوحيد لتفادي التصعيد ووقف تمدد رقعة النزاعات.
التاريخ الدبلوماسي للجزائر يزخر بأمثلة تؤكد هذا النهج: من دورها في التوسط بين إيران والولايات المتحدة خلال أزمة الرهائن عام 1981، إلى مبادراتها في القارة الإفريقية لتسوية أزمات كبرى. هذه التجارب أكسبت الجزائر رصيدًا معنويًا جعلها طرفًا مقبولًا وموثوقًا لدى كثير من الفرقاء، وهو ما تحرص على استثماره اليوم في كل المنابر الدولية، بما فيها مجلس الأمن. فالمساعي الحميدة هي عقيدة دبلوماسية ثابتة.
وما يميز المقاربة الجزائرية أن المساعي الحميدة ليست أحادية الجانب، بل تستند إلى شبكة من العلاقات المتوازنة والرصيد التاريخي من الاحترام المتبادل مع مختلف الأطراف. فهي لا تسعى إلى فرض حلول جاهزة، وإنما إلى تهيئة أرضية تسمح للأطراف أنفسهم بإنتاج التسويات. وهذا ما يجعل الجزائر تؤكد دومًا أن أي حل حقيقي لا يمكن أن يأتي إلا من الداخل، لكن بفضل تسهيلات ودعم يقدمه الوسطاء النزهاء.
سلام عادل ودائم.. على أساس القانون الدولي
تدرك الجزائر أن وقف إطلاق النار في أي حرب ليس سوى خطوة أولى على طريق طويل وشاق، وأن السلام الحقيقي لا يتحقق إلا إذا عالج جذور النزاع. من هنا، يشدد خطابها الدبلوماسي على أن الحلول السياسية يجب أن ترتكز على معالجة الأسباب العميقة للأزمات، سواء تعلقت بالحدود أو بالحقوق السياسية أو بالمخاوف الأمنية. هذا الطرح يجد أساسه في قناعة الجزائر بأن أي تسوية مؤقتة لا تلبث أن تنهار إذا لم تستند إلى معالجة حقيقية لمصادر التوتر.
القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة يمثلان في نظر الجزائر المرجعية الصلبة لأي حل دائم. فهي ترى أن هذه المبادئ تشكل الإطار الوحيد الذي يضمن المساواة بين الدول، ويمنح كل طرف الحماية القانونية اللازمة، بعيدًا عن منطق القوة أو الإملاءات. ولهذا شدّد الوزير أحمد عطاف على أن هذه المبادئ “هي الحكم الخصم بين الدول الأعضاء في منظمتنا”، في تأكيد على أن القانون الدولي هو السقف الجامع الذي يحتكم إليه الجميع دون تمييز أو استثناء.
إلى جانب ذلك، تحرص الجزائر على أن أي حل للنزاعات يجب أن يكون عادلًا، لا يكتفي بوقف العنف بل يضمن أيضًا أمن ومصالح جميع الأطراف. فهي ترى أن السلام الذي يقوم على إقصاء طرف أو تجاهل مخاوفه سرعان ما ينهار، بينما السلام القائم على التوازن والعدالة هو وحده القادر على الاستمرار. ومن هنا تأتي دعوتها الدائمة إلى “حل سياسي سلمي” يراعي الشواغل الأمنية لكل الأطراف، ويعيد بناء الثقة المفقودة بينهم.
إن مقاربة الجزائر تعتبر السلام جزءًا من “الصالح العام الدولي”. فاستقرار منطقة ما يعني استقرار النظام الدولي كله، والعكس صحيح. لذلك، فإن الدعوة الجزائرية إلى حوار شامل وإلى حلول مبنية على الشرعية الدولية ليست مجرد موقف وطني، بل هي مساهمة في بناء نظام عالمي أكثر عدلًا وإنصافًا، يُعلي من صوت الحوار على أصوات المدافع، ويمنح الشعوب حقها في الأمن والتنمية.
م ع