ظروف صعبة واجهها القطاع منذ الاستقلال.. مختصون: “النّهوض بالمنظومة الصحية يتطلّب احترام أهداف الثّورة”

ظروف صعبة واجهها القطاع منذ الاستقلال.. مختصون: “النّهوض بالمنظومة الصحية يتطلّب احترام أهداف الثّورة”

سعت الجزائر بعد الاستقلال إلى محاولة إقامة نظام صحي عادل ومتكامل لكافة الجزائريين، حيث عرف هذا النظام الصحي الوطني عدة إصلاحات وتغيرات سواء من حيث الهياكل الصحية بمختلف أنواعها، ومن حيث عدد العاملين بها، هذه التغيرات كانت عبر مراحل عديدة، إلا أنها تعرف حاليا عدة تناقضات حالت دون تحقيق الأهداف والغايات التي وجدت من أجلها، خاصة في ظل المستجدات المعاصرة كمنافسة القطاع الخاص والتحول الوبائي وكذا الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الراهنة.

إرساء قواعد المنظومة لما بعد الاستقلال

أرست قيادة الثورة نظاما صحيا فعالا بقي لما بعد الاستقلال، مساهما في ضمان تغطية صحية شاملة مجانية بعد المعاناة والظروف القاسية التي خلفها الاستعمار الفرنسي في حق الشعب الجزائري، ولكن رغم المعاناة وضعف وسائل العلاج في تلك الفترة الصعبة إلا أن عملية التجنيد التطوعي لم توقفها الإدارة الاستعمارية، بل استمرت مساهمات الأطباء ومختلف المخلصين للوطن بالرغم من قلة عددهم في التكفل بالجرحى والمرضى بين المجاهدين، وحتى المدنيين بإمكانيات منعدمة إلى غاية استرجاع السيادة الوطنية.

شهد قطاع الصحة مع بداية الكفاح المسلح نقصا كبيرا على مستوى الإطارات، ومختلف وسائل العلاج، في الوقت الذي كان فيه المجاهدون يواجهون جيشا مدجّجا بأحدث التجهيزات، الأمر الذي دفع القائمين على إدارة شؤون العمليات العسكرية والسياسية إلى التحضير لبناء جهاز طبي، وتوفير الأدوية وتدريب الموارد البشرية بإشراف أطباء وممرضين أكفاء ودمجهم في صفوف جبهة التحرير الوطني لإسعاف المصابين وضحايا الألغام، فكان دورهم بارزا ومميزا وفعالا في المجال الصحي.

الطب المجاني أهم ميزة… ومكافحة السل تجربة رائدة

عرفت مرحلة ما بعد الاستقلال، حسب الدكتور فتحي بن أشنهو المختص في الصحة العمومية، تطورا ملحوظا في مجال الخدمات الصحية مقارنة بسابقتها بفضل العمل المتواصل والمجهودات المبذولة، وتمكنت الجزائر من النهوض بالمنظومة الصحية من خلال تعزيز الصحة الجوارية، فأصبحت السباقة في النظام الصحي الجواري، زيادة على تطبيق نظام الطب المجاني والقضاء على الكثير من الأمراض والأوبئة كالسل والشلل الذي كان يصيب الأطفال وخفض نسبة الوفيات أثناء الولادة، بعد أن عاش الشعب الجزائري حرمانا صحيا كبيرا، مذكرا بالإنجازات المحققة، من بينها اختيار المنظمة العالمية للصحة في أواخر الستينيات الجزائر كتجربة رائدة في القضاء على داء السل وكنموذج ناجح في العلاج.

دعوة لتعزيز العمل الميداني والعودة لأهداف الثورة

ويأمل الدكتور بن أشنهو عودة القطاع إلى السكة الأصلية، واحترام أهداف الثورة من أجل خدمة الجزائريين بسواعد وطنية كفؤة، بعد أن انحرف عن مساره الحقيقي في ظل تدهور الخدمات الصحية مجددا، جراء سياسة التسيير المتبعة التي لم ترق إلى المستوى المطلوب رغم توفر إمكانيات العلاج من أدوية وتجهيزات طبية، بالإضافة إلى تخصيص الحكومة ميزانيات ضخمة للتكفل بقطاع الصحة، مؤكدا أن النظام الصحي الجزائري نشأ في ظروف صعبة، ولكن بفضل تفاني الأكفاء تحول إلى الأحسن على جميع الأصعدة، ولكن سرعان ما عاد إلى الانهيار مجددا – على حد تعبيره – الأمر الذي يستدعي تعزيز العمل الميداني مثلما كان في السابق، والعودة إلى الأهداف التي سطّرتها الثورة.

500 طبيب عند الاستقلال

عرفت العشرية الأولى من الاستقلال (1972-1962) نقصا فادحا في الأطباء، حيث لم تكن تتوفر الجزائر آنذاك إلا على 500 طبيب للتكفل بصحة 10.5 ملايين ساكن.

ودلت المؤشرات الصحية لتلك الفترة على ارتفاع وفيات الأطفال بنسبة 180 وفاة لكل 1000 ولادة حية خمسهم يغادرون الحياة قبل السنة الأولى من عمرهم وذلك نتيجة تفشي الأمراض المعدية ونقص التغطية باللقاحات التي لم تتعد نسبة 10 بالمائة، ونفس الوضعية شهدتها وفيات الأمهات الحوامل التي سجلت 230 وفاة لكل 100 ألف ساكن.

ويقول المتتبعون للشأن الصحي إن قلة الموارد المالية لتلك الفترة جعلت الجزائر عاجزة تماما عن مواجهة انتشار الأمراض الوبائية المعدية التي تسببت في تسجيل عدد مرتفع من الوفيات والإصابة بالإعاقات بوسط المجتمع.

وللتصدي لهذه الوضعية المزرية والتخفيض من الفوارق في توزيع الأطباء، قررت الدولة تقسيم أوقات العمل بين القطاعين العمومي والخاص لتوفير العلاج للجميع. كما شهدت هذه الفترة تطبيق التلقيح الإجباري لكل الأطفال إلى جانب تنظيم حملة وطنية واسعة لمكافحة الملاريا.

1972.. التركيز على المحاور الثلاث للنهوض بالقطاع

ومنذ سنة 1972 عرفت الجزائر تبني سياسة صحية ارتكزت على ثلاثة محاور تتمثل أولا في تطبيق الطب المجاني في جانفي 1974 وثانيا في إصلاح التكوين الطبي وتحسين نوعية التدريس والتأطير، أما المحور الثالث فيتمثل في إنشاء علاج قاعدي.

كما شهدت هذه الفترة انفجارا ديموغرافيا وتفشيا للأمراض المتنقلة عبر المياه والحيوانات، مما استدعى تكفلا متعدد القطاعات.

1982.. بداية الإنجازات

شرعت الجزائر في إنجاز عدة مرافق صحية من بينها المستشفيات العامة والهياكل الخفيفة (عيادات متعددة الخدمات ومراكز صحية) تهدف إلى توسيع التغطية الصحية عبر القطر.

وعرف القطاع خلال نفس العشرية حدثا هاما تمثل في انشاء 13 مؤسسة استشفائية جامعية أُسندت لها مهمة العلاج والتكوين والبحث العلمي، حيث ساهمت هذه المؤسسات في ترقية التكوين الطبي وشبه الطبي وبروز الكفاءات الوطنية من خلال مشاركتها في اللقاءات الدولية ذات المستوى الرفيع.

ورغم تميز الفترة بـ “تراجع محسوس” في معدلات الإصابة ببعض الأمراض المعدية، إلا أن القطاع واجه عدة اختلالات في التموين بالأدوية واختناقات مالية، لكن ذلك لم يمنع السلطات من تطبيق بعض الاصلاحات المتمثلة في انشاء القطاع الخاص.

ميلاد مؤسسات تدعم وزارة الصحة

شهدت العشرية الممتدة (1992 – 2002) ميلاد عدة مؤسسات دعمت وزارة الصحة على غرار المخبر الوطني لمراقبة المواد الصيدلانية ومعهد باستور الجزائر الذي أصبح مخبرا مرجعيا لمنظمة الصحة العالمية في مجال المراقبة والتكوين حول مقاومة الجراثيم للمضادات الحيوية. وتضاف إلى هذه المؤسسات الصيدلية المركزية للمستشفيات والوكالة الوطنية للدم والمركز الوطني لليقظة الصيدلانية والمركز الوطني لمكافحة التسمم والوكالة الوطنية للتوثيق الصحي.

كما عرفت هذه المرحلة اعادة النظر في النصوص القانونية المسيرة للمؤسسات الصحية بما فيها المستشفيات الجامعية والمؤسسات المتخصصة والمراكز الصحية، بالإضافة إلى تطبيق النظام المسير للنشاطات الاضافية بين القطاعين العمومي والخاص. كما عرفت نفس العشرية اعادة بعث البرامج الوطنية وتحديد سياسة للأدوية في مجال الاستيراد والتسجيل والمراقبة والتوزيع وتخلي الدولة عن احتكارها للمواد الصيدلانية في المجال.

اختلالات هيكلية ومحاولات مبتورة لإصلاح القطاع

بدت محدودية الخدمة بشكل واضح بسبب معاناة المؤسسات من عدة اختلالات هيكلية وتنظيمية، مما دفع بالسلطات العمومية إلى اتخاذ مبادرة سياسة اصلاح المستشفيات التي تهدف إلى تخطيط وتنظيم العلاج بها.

كما هدفت السياسة الجديدة إلى أنسنة وتأمين الخدمات وعصرنة النشاطات تماشيا مع الطلبات الجديدة مما يسمح بتوفير خدمة ذات نوعية مع المحافظة على مبدئي العدالة والتضامن المكرسين من طرف الدولة. وقد عرف القطاع من جانب آخر انتقالا للوضعية الديموغرافية والوبائية للسكان إلى تعزيز العلاج الجواري من أجل تقريب الصحة من المواطن.

وشرعت السلطات العمومية في تطبيق تنظيم جديد للمؤسسات الصحية في سنة 2007 يهدف إلى فصل مهام المستشفيات الجامعية وتلك التي تضمن علاجا قاعديا. كما برز تقسيم جديد للمؤسسات الصحية على غرار المؤسسات العمومية الاستشفائية والمؤسسات العمومية للصحة الجوارية التي تشمل أيضا قاعات العلاج والعيادات متعددة الخدمات.

واستفاد القطاع من سنة 2005 إلى 2009 من غلاف مالي بقيمة 244 مليار دج تم استثماره في انجاز 800 مؤسسة استشفائية وجوارية. وقد حقق القطاع الفترة الممتدة ما بين 2002 و2012 عدة مكاسب تمثلت في تعميم التغطية باللقاحات بنسبة 90 بالمائة، مما ساهم في القضاء على عدة أمراض خطيرة أدت إلى الوفيات والإعاقات خلال السنوات الأولى للاستقلال بجانب القضاء على الأمراض المتنقلة وتراجع الوفيات لدى الأطفال إلى معدل أوصت به المنظمة العالمية للصحة، بالإضافة إلى انخفاض وفيات الحوامل بنسبة 5 بالمائة كل سنة.

2021.. القطاع الصحي ينال ثالث أكبر ميزانية

شكلت ميزانية الصحة الاستثناء كما كان منتظراً في ميزانية 2021، بعدما ارتفع الاقتطاع السنوي المخصص لها بـ5% إلى 410 مليارات دينار، وذلك بالنظر إلى التحديات التي تنتظر هذا القطاع، خاصة في ظل تواصل تفشي وباء كوفيد 19، وذلك لتغطية ارتفاع الإنفاق الحكومي على الأدوية والعتاد الصيدلاني.

هذا إضافة إلى ارتفاع كتلة أجور العمال بعد إقرار الحكومة تحفيزات ومنحاً مالية للأطباء وشبه الطبيين والصيادلة العاملين في المستشفيات الحكومية، ما جعل ميزانية الصحة ثالث أكبر ميزانية في الجزائر سنة 2021، بعد الدفاع والداخلية، إذا ما تم احتساب ميزانية دعم خدمات الصحة والاقتطاعات الاستثنائية لشراء اللقاحات والمواد الصيدلانية وشبه الصيدلانية لمواجهة وباء كورونا.

وحسب الدكتور جمال فورار، مدير الوقاية في وزارة الصحة الجزائرية والناطق الرسمي للجنة رصد ومتابعة فيروس كورونا، فإن “الحكومة الجزائرية أخرجت ميزانية وزارة الصحة من أي حسابات مالية أو سياسية، بل تعاملت معها بموضوعية ومسؤولية، الجزائر على غرار باقي دول العالم تعيش وضعا صحيا استثنائيا، ومن الطبيعي أن تفلت ميزانية الصحة من (التقشف)، فصحة الجزائريين أولى”.

وبلغة الأرقام، يقول فورار إن “قطاع الصحة خصصت له أكثر من 3 ملايير دولار كميزانية دعم للخدمات الصحية تطبيقا لمبدأ الصحة المجانية المنصوص عليها في الدستور، وهي ميزانية خارج ميزانية وزارة الصحة التي تنقسم إلى 330 مليار دينار كرواتب لعمال القطاع بأكملهم، و53 مليار دينار لصيدلية المستشفيات المركزية التي تمون مستشفيات الجزائر بكل الأدوية والمواد شبه صيدلانية من ألبسة وصولا إلى الضمادات”.

وتضاف إلى ذلك 5 ملايير دينار موجهة لمعهد “باستور” للأبحاث في الأوبئة، المكلف بمتابعة تطور تفشي وباء كورونا وغيرها من الأمراض والأوبئة، وأخيرا تم تخصيص ميزانية مفتوحة قد تصل إلى 20 مليار دينار (1.5 مليار دولار) لشراء لقاحات فيروس كورونا المنتظر أن تصل أولى دفعاتها في الأيام القادمة من روسيا، وهو “سبوتنيك v”، والصين ثانياً، إذاً نحن نتكلم عن ميزانية قطاعية ارتفعت بـ5% عن السنة الماضية، بالإضافة لميزانيات خارجية تقتطعها الحكومة مباشرة من ميزانية الدعم العام للخدمات والمواد واسعة الاستهلاك.

لمياء بن دعاس