حديثُنا اليوم رصدٌ وتحليلٌ لظاهرةٍ عمّت وتوسّعَت بشكلٍ رهيب، يوشِكُ إن استفحَلت أن تأكُلَ الأخضَرَ واليابِس، حيثُما نظَرتَ وأرجَعتَ البصَرَ إلاّ ويثبُتُ لديكَ إصابَةُ الغالِبِ الأعَمِّ بهذا الوَبَاءِ الآثِم، والمعصومُ من عصمَهُ الله.. إنّهَا “ظاهِرَةُ الرّدَاءَةِ وفُقدَانُ الجَودَةِ في كلّ شيء”. ظاهرةٌ عمّت وتغلّبت في تفكيرِ وأدَاءِ وإنتاج المسلمين حتّى اعتبرَها البعضُ قرينَةَ الإسلامِ .. وهذا بهتانٌ فاحِش، والصّوابُ أنه اجتمعت أسبابٌ وعَوامِلُ في واقع المسلمين أفرادًا ومؤسساتٍ عمِلت وِفقَ سُنّةِ الله التي لا تُحابِي ولا تضطَهِد في تكريسِ الرّدَاءَةِ والسلبيّةِ في كُلّ شيء..! مظاهرُ ومُفرداتُ الرّدَاءةِ لا تحتاجُ إلى جُهدٍ في الكشف: تأمّلِ الأداءَ والإنتاجَ الفَردِي اليومِي للشخصِ حتّى في عبادَتِه لله وصفةِ صلاته وأوقاتِها وقراءته للقرآن الكريم تجِدُهُ يفتقِدُ للجَودَةِ والإتقانِ يتّصِفُ بالرّدَاءَةِ والقصورِ والتسيّب! تأمّلِ الأداءَ والإنتاجَ، تأمّلِ الأداءَ في القراءة وتحصيل العلم.. الإنتاجَ الزّواجِي والأُسَرِي.. التعليمي التربوي.. البحثِي الأكاديمي.. الصحّي العلاجِي.. في الشوارع والأحياء.. وغيرها من مجالات النشاط تجِدِ العنوان العام هوَ: الرّدَاءةَ والقصُورَ والإهمالَ والتسيّبَ والغِش والخديعةَ وفقدانَ الحِس النّوعي في المنتوجِ..
إن السببُ الأساسي في استحكَامِ ظاهرة الرّدَاءَةِ في النفسِ والمجتمع: عدمُ تقديسِ المبادئِ والقيَم. نعم؛ النفوسُ والمجتمعاتُ التي تنطلِقُ في تفكيرِها وتدبيرِها وإنجازِها وإنتاجِها من الإيمانِ بالمبادئِ والقِيَمِ الرّاسِخة المُقدّسة تُعطِي وتُنجِزُ أكثَر من تِلكَ التي لا مبادئ لها، أو تلك التي مبادِئها وقِيمُها ضعيفةٌ مُهَلهَلة، وهذه سُنّةٌ ثابتَةٌ من سُنَنِ الحياة لا تبحَث لها عن بديلٍ أبدًا. كيفَ وإسلامُنا يطلبُ منَّا أن نكونَ على أعلى درجاتِ الجودَةِ والإتقانِ واحترامِ المقاييس لوجه اللهِ لا ننتظِرُ شُكرَ أحد.. أيُّ قيمَةٍ هي أعلى من هذه القيمَةِ وأجْوَد؟! ربّنا سبحانه الذي نعبُدُهُ أتقنَ كلّ شيءٍ في هذا الوجود وسوّاهُ وجعله على أتمّ مواصفاتِ الجودَة، واقرأ قوله تعالى “صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ” النمل: 88، وقال تعالى “مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ” الملك: 3. فسبحانَ من خلقَ كلَّ شيءٍ فقدّرَهُ تقديرًا!. ومن أشدّ الأسبابِ تكريسًا لظاهرةِ الرّدَاءَةِ في النفسِ والمجتمع: انعِدامُ ثقافَةِ الاحتساب في الأداء: والاحتسابُ معناه اعتقادُ أنّ عملكَ وإنجازَكَ له مردودٌ محفوظٌ لا يضيع، هذا الأمَلُ وهذا الرّجاءُ يحملُ على عِشْقِ الجَودَة والإتقانِ في كلّ شيء. كيفَ لا يكونُ المُسلمُ فردًا أو جماعَةً أو مؤسّسَة محتَسِبًا للمردُودِ واثِقًا فيه ودينُهُ الذي يؤمِنُ به علّمَهُ أنّ الخيرَ والعمل الصالحَ والعطاءَ الإيجابِي لا يضيعُ عند الله أبدًا، لا في الدّنيا ولا في الآخرة. ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”. بل عمّمَ سبحانه وأطلقَ على جميع أنواع الخير والمعروف فقال سبحانه “وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا” المزمل: 20.
من موقع الالوكة الإسلامي