لَقَدْ كَانَ مِنْ عَظِيمِ فَضْلِ اللَّهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ أَنْ نَوَّعَ الْعِبَادَاتِ وَجَعَلَ بَعْضَهَا أَيْسَرَ مِنْ بَعْضٍ، وَكَانَ مِنْ سَمَاحَةِ شَرِيعَتِهِ أَنْ بَايَنَ بَيْنَ أَنْوَاعِهَا وَأَزْمَانِهَا وَأَمَاكِنِهَا وَأَعْدَادِهَا وَهَيْئَاتِهَا؛ كُلُّ ذَلِكَ لِيَجْعَلَهَا مُتَاحَةً لِكُلِّ رَاغِبٍ، مُتَنَاسِبَةً مَعَ اخْتِلَافِ طَبَائِعِهِمْ وَطَاقَاتِهِمْ وَإِمْكَانِيَّاتِهِمْ؛ فَمَا يَعْجِزُ الْعَبْدُ عَنْ فِعْلِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ يُمْكِنُهُ فِعْلُ غَيْرِهَا، كُلُّ هَذَا لِيُتَاحَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَكْسِبَ مِنَ الْأُجُورِ وَيَحْصُدَ مِنَ الْحَسَنَاتِ مَا يُؤَهِّلُهُ لِمَقَاعِدَ عَالِيَةٍ فِي الْجَنَّةِ، وَلِهَذَا تَجِدُ الْجَنَّةَ يَدْخُلُهَا قَلِيلُ الْعِلْمِ، وَالْعَالِمُ، وَالْغَنِيُّ، وَالْفَقِيرُ، وَالْعَزِيزُ، وَالذَّلِيلُ، وَالْأَسْوَدُ، وَالْأَبْيَضُ، وَالسَّلِيمُ، وَالسَّقِيمُ، وَكُلٌّ يُسَابِقُ وَيُسَارِعُ حَسَبَ طَاقَتِهِ وَهِمَّتِهِ. وَهُنَا يَجْدُرُ بِنَا سَوْقُ شَوَاهِدَ، وَإِيرَادُ صُوَرٍ تُبَيِّنُ أَنَّ الْجَنَّةَ قَرِيبَةٌ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ أَيًّا كَانَ وَضْعُهُ وَحَالُهُ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لَهَا يَسِيرٌ، وَالطَّرِيقَ إِلَيْهَا مُمَهَّدٌ، لِكُلِّ مَنْ هُوَ لَهَا رَاغِبٌ، وَلِرِضَى رَبِّهِ طَالِبٌ، وَلَهَوَى النَّفْسِ مُجَانِبٌ؛ فَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
– إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ؛ سَوَاءٌ كَانَ شَوْكًا أَوْ زُجَاجًا وَغَيْرَهُ؛ فَفِي الْحَدِيثِ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ، فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ”.
– سُقْيَا الْمَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّارِبُ إِنْسَانًا أَوْ حَيَوَانًا؛ فَفِي الْحَدِيثِ يَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ “بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ”.
– وَمِنَ الْأَذْكَارِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ “سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ”.
– وَمِنَ الصَّلَوَاتِ اثْنَا عَشَرَ رَكْعَةً مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ؛ فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ “مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ تَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ الْفَرِيضَةِ، إِلَّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، أَوْ: إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ”.
– قِرَاءَةُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْمَوْتُ”.
فَهَا قَدْ رَأَيْتُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا يَكُونُ جَزَاءُ أَصْحَابِهَا الْجَنَّةَ، عَمَلٌ يَسِيرٌ وَثَوَابٌ عَظِيمٌ وَعَاقِبَةٌ حَسَنَةٌ؛ فَلَا تَزْهَدَنَّ فِي طَاعَةٍ أَنْ تَعْمَلَهَا؛ فَرُبَّمَا كَانَتْ زَادَكَ إِلَى الْآخِرَةِ، وَطَرِيقَكَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَنَجَاتَكَ مِنَ النَّارِ، إِذَا صَاحَبَهَا الْإِخْلَاصُ، وَحَمَلَهَا الرَّجَاءُ، وَسَاقَهَا الْحُبُّ، وَتَقَبَّلَهَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ؛ وَاعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ عِبَادَهُ بِمُسْتَحِيلٍ، أَوْ نَهَى عَنْ غَيْرِ مُمْكِنٍ، بَلْ جَعَلَ فِي الْعِبَادِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَمَلِ مَتَى عَزَمُوا وَرَغِبُوا وَخَالَفُوا هَوَى أَنْفُسِهِمْ، وَهَوَى اللَّهِ آثَرُوا، وَزَهِدُوا فِي الدُّنْيَا وَتَطَلَّعُوا إِلَى الْأُخْرَى.
من موقع شبكة الألوكة