الجزائر تتأهب في إطار مخطط الوقاية من حرائق الغابات ومكافحتها بهدف واضح

صيف بلا ضحايا ولا خسائر كبرى.. إمكانيات ضخمة واستحداث منظومات متطورة للوقاية والتدخل السريع

صيف بلا ضحايا ولا خسائر كبرى.. إمكانيات ضخمة واستحداث منظومات متطورة للوقاية والتدخل السريع

مع بداية فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة، تعود إلى الواجهة مخاوف الجزائريين من حرائق الغابات التي لطالما تسببت في خسائر بشرية ومادية فادحة، غير أن السنوات الأخيرة شهدت نقلة نوعية في أسلوب الدولة في مواجهة هذه الكارثة البيئية، عبر تسخير إمكانيات ضخمة واستحداث منظومات متطورة للوقاية والتدخل السريع.

وبالنظر إلى التحديات المناخية المتزايدة، أطلقت السلطات خطة استباقية تعتمد على التوعية، التكنولوجيا، والتعبئة المحلية، أملاً في الحفاظ على المنحنى التنازلي للحرائق الذي تحقق سنة 2024، وتحقيق موسم صيفي آمن لا تسجل فيه الأرواح ولا تحترق فيه المساحات الخضراء.

تماشيا مع الهواجس المتصاعدة من موسم صيفي قد يشهد ارتفاعا قياسيا في درجات الحرارة، جاء التدخل الرئاسي هذه السنة ليؤكد أن الدولة تتعامل مع ملف حرائق الغابات بمنطق الاستباق لا رد الفعل. ففي اجتماع مجلس الوزراء الأخير، أمر رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، برفع أقصى درجات اليقظة، مع التشديد على اتخاذ إجراءات فورية للوقاية من أي حوادث حرائق محتملة، خاصة خلال فترات الحصاد، التي غالبا ما تشهد شرارات عشوائية تتحول إلى حرائق مهولة.

هذه التعليمات الصارمة سبقتها تعليمات أخرى سابقة تمخض عنها تحرك ميداني مبكر على مختلف المستويات. فقبل دخول فصل الصيف رسميا، فُعّلت الخطة الوطنية لمكافحة حرائق الغابات، للسنة الثانية على التوالي، في سابقة تؤكد التحول نحو التخطيط طويل الأمد بدل الاكتفاء بردود الفعل الموسمية، حيث بدأت أعمال التنظيف والوقاية منذ مطلع ماي، وشملت كل المتعاملين الذين يستخدمون الفضاءات الغابية. وفي خطوة غير مسبوقة، تم إطلاق مخططات ولائية وبلدية بتنسيق مباشر مع المديرية العامة للغابات، لتحديد النقاط السوداء والتقاطعات السكانية مع الغابات، وتعبئة الوسائل البشرية والمادية قبل اندلاع أي حريق. هذا التحرك الشامل سمح بتقليص المساحات المحروقة في شهر ماي إلى هكتارين فقط، مقارنة بـ25 هكتارا خلال نفس الفترة من العام الماضي، وهو مؤشر على فعالية الإجراءات الاستباقية.

 

صيف بدون ضحايا.. هل يتكرر إنجاز 2024؟

وفي ظل التحذيرات الرئاسية والتعليمات الاستباقية الصارمة التي تم اتخاذها مع بداية الموسم الساخن، تُطرح تساؤلات ملحّة حول قدرة الجزائر على تكرار إنجاز العام الماضي، حين نجحت لأول مرة منذ سنوات في عبور فصل الصيف دون تسجيل خسائر بشرية جراء حرائق الغابات.

تشير الأرقام الرسمية، إلى أن سنة 2024 سجلت واحدة من أدنى مستويات الحرائق منذ الاستقلال، إذ لم تتجاوز المساحة المتضررة 3484 هكتارا فقط، توزعت على 732 بؤرة حريق، مقارنة بأكثر من 38 ألف هكتار سنة 2023. هذه الأرقام كانت نتيجة مباشرة لخطة وطنية مبكرة تم إطلاقها في ماي 2024 بدلا من جوان 2024، ما منح الجهات المعنية هامشا واسعا للتحضير والتدخل قبل أن تشتعل أولى شرارات النار. وقد لعب العامل البشري دورا محوريا في هذا الإنجاز، من خلال تعبئة أعوان الغابات وتعاون السكان المحليين والمجتمع المدني، خاصة في المناطق الجبلية والغابية. كما أسهمت التدابير الردعية بفعالية في كبح التصرفات العشوائية التي غالبا ما تكون سببا مباشرا للحرائق، حيث تم تطبيق قرارات الولّاة بمنع الشواء والدخول العشوائي إلى الغابات بنسبة امتثال قاربت 100 بالمائة لكن الحفاظ على هذا المنحى التنازلي لا يبدو سهلا، في ظل تزايد درجات الحرارة وتغير أنماط الطقس. ومع ذلك، يراهن المسؤولون على استمرارية النهج التشاركي، وتوظيف الوسائل التقنية المتطورة، إلى جانب اليقظة المجتمعية والصرامة القانونية، لتحقيق صيف جديد بلا حرائق أو على الأقل بأقل الأضرار. ولعل نجاح سنة 2024، يعدّ حافزا حقيقيا للمضي قدما، لكنه أيضا اختبار لقدرة الدولة والمجتمع على الحفاظ على اليقظة والجاهزية. فالرهان هذه السنة، بالإضافة الى عدم تسجيل أي خسائر بشرية أو مادية، سيكون حول ترسيخ ثقافة الوقاية كجزء من السلوك الجماعي، وتحويل الإنجاز السابق من مجرد استثناء إلى قاعدة دائمة.

 

الدرونات والطائرات.. أسلحة الجزائر الجديدة ضد النيران

وإذا كان الإنجاز الذي تحقق سنة 2024 قد اعتمد على يقظة مبكرة وجهد بشري منظم، فإن أحد أبرز العوامل الجديدة التي ساهمت في تغيير المعادلة هو دخول التكنولوجيا الحديثة بقوة إلى ساحة المعركة ضد النيران. فقد باتت الجزائر اليوم تراهن على “أسلحة ذكية” لم تكن حاضرة في السابق، في مقدمتها الطائرات والدرونات، التي أصبحت عين الدولة في السماء وذراعها في التدخل السريع. خلال الأشهر الماضية، تم تعزيز الأسطول الجوي بـ12 طائرة قاذفة للمياه سعة 3000 لتر، بينها 6 مملوكة للدولة و6 أخرى مستأجرة، إلى جانب الطائرة العملاقة “Be 200” التابعة لوزارة الدفاع بسعة 12 ألف لتر. ولم تتوقف الجهود عند هذا الحد، بل تم تدعيم الحماية المدنية بـ6 مروحيات إضافية، كما تم توسيع عدد السيارات الميدانية المجهزة (4×4) بسعة 1000 لتر إلى 450 مركبة، ما وفر تغطية أفضل للمناطق الوعرة. وتخدم هذه الآليات شبكة بشرية تضم أكثر من 5683 عاملا في الغابات، 6000 عامل في الورشات، وأكثر من 3200 عامل موسمي أصبحوا يعملون على مدار السنة. أما على مستوى الاستشعار والرصد، فقد دخلت الجزائر مرحلة جديدة باستخدام الدرونات (الطائرات دون طيار)، حيث تم تزويد المديرية العامة للغابات بـ35 درونا، تُستخدم في الكشف المبكر، الإنذار، والاستطلاع، بل وتم توظيفها في مراقبة صحة الغطاء النباتي وتتبع تحركات الجراد جنوبا. كما دخلت تكنولوجيا “الليدار” (LiDAR) الخدمة بمدى كشف يصل إلى 20 كيلومترا، في إطار مشاريع مشتركة مع وزارة التعليم العالي. هذه القدرات التقنية انعكست ميدانيا على جاهزية التدخل، فتم نشر 493 برج مراقبة، وتوزيع 1200 خيمة لتأمين المبيت الميداني لأعوان الغابات، إضافة إلى 2800 نقطة مياه، وفتح مسالك جديدة لعزل الحرائق ومنع انتشارها. كما تكرّست شراكة مع مؤسسة ناشئة لتطوير نظام إنذار مبكر عبر الرسائل النصية (SMS)، بدأ تطبيقه في ولاية تيزي وزو، مع نية التعميم في باقي الولايات. وتُظهر هذه الأرقام والجهود أن الجزائر انتقلت من الاعتماد على الوسائل التقليدية إلى منظومة تدخل متعددة المستويات، تدمج بين العنصر البشري والتقنية الحديثة، ضمن ديناميكية جماعية عنوانها الرصد قبل الاشتعال والتدخل قبل الاستغاثة. وبقدر ما أثبتت الجزائر جاهزيتها الميدانية والتقنية، فإن العامل الحاسم في كل هذه المنظومة يبقى هو الإنسان، ذلك الحارس الأول للغابة، والعين التي تسبق النار، واليد التي تُطفئ قبل أن تشتعل. وهنا يتجلى الدور المركزي للعنصر البشري، ليس فقط من خلال أعوان الغابات والحماية المدنية، وإنما أيضا عبر تعبئة مجتمعية واسعة النطاق.

 

من الأرض.. خطط ولائية وتعبئة مجتمعية

المعركة ضد حرائق الغابات تنتهي من السماء، وتبدأ على الأرض، وسط الغابات، وبين أفراد المجتمع. فالرهان الحقيقي اليوم يكمن في الوقاية المبكرة، والتدخل السريع، وهو ما دفع السلطات المحلية في مختلف ولايات الوطن إلى وضع خطط عملياتية دقيقة، تُنفَّذ بالشراكة مع مختلف الفاعلين، وعلى رأسهم المجتمع المدني. في هذا الإطار، بادرت العديد من الولايات، لاسيما تلك المصنفة ضمن المناطق الحمراء مثل بجاية، تيزي وزو، سوق أهراس وخنشلة، إلى تفعيل خلايا اليقظة ومراكز العمليات الولائية، التي تشتغل على مدار الساعة لرصد أي مؤشر خطر. وتم تسخير جميع الوسائل المادية والبشرية، من شاحنات الإطفاء والعتاد اليدوي، إلى توفير صهاريج المياه ومراكز التدخل المتقدمة بالقرب من النقاط الساخنة. اللافت هذا الموسم، هو الانخراط الكبير للمجتمع المدني، من خلال جمعيات بيئية وشبابية، ساهمت في حملات توعية واسعة النطاق حول الوقاية من الحرائق، وأخرى لتنظيف محيط الغابات وفتح المسالك لتسهيل تدخل الفرق المتخصصة. وقد أشادت وزارة الداخلية بـ”الدور المحوري الذي لعبته الجمعيات المحلية في تعزيز الوقاية المجتمعية”، واعتبرت أن هذه الديناميكية الشعبية “أصبحت جزءا من منظومة الدفاع المدني الموسمية”. إضافة إلى ذلك، تم تجنيد أعوان الحرس البلدي والحماية المدنية والدرك الوطني بشكل منظم ودقيق، مع توزيعهم وفق مخططات تدخل زمنية وجغرافية. وقد صرّح والي ولاية الطارف أن “نجاح موسم 2024 في تقليص عدد الحرائق يعود أساسا إلى التنسيق الميداني والتعبئة المجتمعية التي خلقت شبكة إنذار مبكر فعالة”. وهو ما يؤكد مرة أخرى أن حماية الغابات هي ورشة جماعية تشترك فيها الدولة والمواطن، وأن استدامة النتائج مرهونة بمدى استمرار هذا الزخم المحلي، من اليقظة إلى الفعل، ومن التحذير إلى التدخل.

 

تشريعات صارمة وردع المخالفين

ومع تصاعد التهديدات التي تمثلها حرائق الغابات، لم تكتف الجزائر بالتحرك الميداني والتقني، وانتقلت أيضا إلى تحصين المعركة على الجبهة القانونية. فبموازاة الجهود الوقائية واللوجستية، تبنّت السلطات توجها أكثر صرامة في التعامل مع مسبّبي الحرائق، سواء كان ذلك بفعل الإهمال أو بدافع إجرامي، لإرسال رسالة واضحة مفادها أن الغابات خط أحمر، والمساس بها جريمة لا تمرّ دون عقاب. في هذا السياق، تمّ تعزيز الترسانة القانونية بنصوص جديدة أكثر ردعا، حيث تم تعديل قانون العقوبات لتشديد العقوبات على كل من يثبت تورّطه في إشعال الحرائق عمدا. وتشمل هذه العقوبات السجن المؤبد في حال ترتبت عن الحريق خسائر بشرية أو بيئية جسيمة، كما أقرت غرامات مالية ثقيلة قد تصل إلى 2 مليون دينار جزائري، في حال تعمّد إشعال النيران أو التسبب فيها بإهمال جسيم. وقد صرّح وزير العدل السابق، عبد الرشيد طبي، بأن القانون الجزائري “لم يعد يتساهل مع المتسببين في الكوارث البيئية”، وأن الدولة “لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي فعل يهدد الأرواح والثروة الغابية”. وأضاف أن العدالة سجلت خلال السنوات الماضية عدة إدانات في قضايا تتعلق بحرائق الغابات، مما ساهم في ردع بعض الجهات التي كانت تتعامل مع الغابات باستهتار أو استغلال إجرامي. وعلاوة على ذلك، تم إنشاء خلايا تحقيق خاصة على مستوى الدرك الوطني، تتكفل حصريا بالتحقيق في أسباب الحرائق، مدعومة بخبراء في الحرائق وتقنيات تحليل الصور الجوية، لتحديد مصدر الحريق ومساره، وبالتالي ملاحقة الجناة قضائيا، سواء كانوا أفرادا أو شبكات منظمة. هذا المسار القانوني الحازم يعكس إرادة الدولة في الانتقال من مرحلة ردّ الفعل إلى مرحلة الردع الوقائي، ويفتح المجال لتكريس ثقافة المسؤولية الفردية والجماعية تجاه البيئة. وهكذا، تبرهن الجزائر من خلال خططها الاستباقية، وتسخيرها للتكنولوجيا الحديثة، وتعبئة مختلف القطاعات، على تحول جذري في إدارة ملف حرائق الغابات، من رد الفعل إلى الفعل الوقائي المدروس. وبين التحذير الرئاسي والتدخلات العملياتية، مرورا بتحديث التشريعات وتعزيز الوعي المجتمعي، تضع الدولة نصب أعينها هدفا واضحا: صيف بلا ضحايا ولا خسائر كبرى. ومع كل صيف جديد، تُختبر هذه المقاربة الشاملة، لتثبت أن حماية الثروة الغابية أولوية وطنية تتطلب يقظة جماعية وجهدا مستداما.