إن المتأمل في حياة الناس يجد في الأغلب رؤيتهم لصناعة الحياة تنبع من الرؤية المادية التي صبغت عصرنا، وطغت على كل مظاهر الفكر والتنظير فيه، حتى صار الأثر المادي فقط هو مقياس التقدم والنجاح والرقي والفلاح. وإذا عدنا إلى الوراء أربعة عشر قرنًا، رأينا بواكير الدعوة الربانية الإسلامية المحمدية، كيف انطلقت لتحيي الإنسان كل الإنسان، في الأرض كل الأرض، لتصنع الحياة الحقيقية التي يرضاها الله، وتقبلها الفطرة البشرية السوية في أرجاء المعمورة كلها. هذه الدعوة التي أحيت الإنسان انطلقت من بيت رجل كان ينام على الأرض حتى أثَّر الحصير في جنبه، وكان إذا قام لربه مصليًا غمز قدم زوجه؛ لتقبضها مفسحة له مكانًا يقترب فيه من ربه عبر سجدة عُلوية. هذا البيت الذي انتثرت السعادة في كل أركانه، وفاض منها حتى صبغ الأرض بها، كان هذا وصفه وسمته. وعلى نهجه سار أصحابه وأتباعه بعد حين، حتى وقف أحدهم بثياب رثة، أمام قائد جيوش الإمبراطورية الفارسية في زهوه وصولجانه وعدته وعتاده قائلًا: “نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”. أي ضيق في الدنيا يعيشه رستم؟ وأي سعة يعيشها الصحابي؟
إنه الفهم الواعي لمعنى صناعة الحياة، الحياة التي يخضع فيها الجميع لرب واحد، له يتعبدون وإليه يتوجهون، وباسمه يذكرون ويتبتلون. الحياة التي يحكمها العدل الذي أوصَت به الشريعة بإقامته بين الناس كل الناس، بمجرد أنهم بشر لا غير، فقال تعالى “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ” النساء: 58. الحياة التي يتحرر فيها الناس من عبودية البشر، ويحتكمون فيها جميعًا إلى قوانين رب البشر. الحياة التي تسودها المحبة وانتشار الخير، وينزوي في جنباتها الكره والبغضاء، وارتكاب الرذائل، حتى تصبح الرذيلة خائفة تترقَّب غيبة الناس والأعين لتُرتَكب. الحياة التي تنطلق في الأرض تقلب ظهرها، وتخرج كنوزها، وتكتشف خباياها، لتقيم عمرانًا باسم الله، فيعيش فيها الغني متمتعًا معطيًا حق الله، ويعيش فيها الفقير عفيفًا يأتيه رزق الله. هذه هي الحياة التي يجب على كل مسلم السعي لإقامتها، وتنشئة الأجيال على معانيها ومراميها. حياة اكتست بكل معالم العبودية لله ونشر الخير والعدل، وكان إقامة العمران فيها تابع لإقامة الإنسان، فإذا وُجد الإنسان الصحيح، وُجدت معه كلُّ أسباب النجاح. وليست الحياة التي هدمت الإنسان، وأقامت الحضارة والعمران، فهل وعَى المسلم الحياة التي وجب عليه صناعتها ؟
من موقع الالوكة الإسلامي