إن المتأمل في حياة الناس يجد في الأغلب رؤيتهم لصناعة الحياة تنبع من الرؤية المادية التي صبغت عصرنا، وطغت على كل مظاهر الفكر والتنظير فيه، حتى صار الأثر المادي فقط هو مقياس التقدم والنجاح والرقي والفلاح. إنه الفهم الواعي لمعنى صناعة الحياة، الحياة التي يخضع فيها الجميع لرب واحد، له يتعبدون وإليه يتوجهون، وباسمه يذكرون ويتبتلون. الحياة التي يحكمها العدل الذي أوصَت به الشريعة بإقامته بين الناس كل الناس، بمجرد أنهم بشر لا غير، فقال تعالى ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ” النساء: 58. الحياة التي يتحرر فيها الناس من عبودية البشر، ويحتكمون فيها جميعًا إلى قوانين رب البشر. الحياة التي تسودها المحبة وانتشار الخير، وينزوي في جنباتها الكره والبغضاء، وارتكاب الرذائل، حتى تصبح الرذيلة خائفة تترقَّب غيبة الناس والأعين لتُرتَكب. الحياة التي تنطلق في الأرض تقلب ظهرها، وتخرج كنوزها، وتكتشف خباياها، لتقيم عمرانًا باسم الله، فيعيش فيها الغني متمتعًا معطيًا حق الله، ويعيش فيها الفقير عفيفًا يأتيه رزق الله. هذه هي الحياة التي يجب على كل مسلم السعي لإقامتها، وتنشئة الأجيال على معانيها ومراميها. حياة اكتست بكل معالم العبودية لله ونشر الخير والعدل، وكان إقامة العمران فيها تابع لإقامة الإنسان، فإذا وُجد الإنسان الصحيح، وُجدت معه كلُّ أسباب النجاح. وليست الحياة التي هدمت الإنسان، وأقامت الحضارة والعمران، حتى خلفت جدرانا بقيت سبعة آلاف عام، وكان حكم الله على من صنعها ” يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ” هود: 98. لقد بيَّنَ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياة الحقيقيةَ، وذلك بإتباع سُنَّتِه صلى الله عليه وسلم، وتركَنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارِها، لا يزيغ عنها إلَّا هالِكٌ؛ قال تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ” الأنفال: 24. فهل وعَى المسلم الحياة التي وجب عليه صناعتها؟
الدكتور مسلم اليوسف