إن الله تعالى كريم يتفضل على عباده بوجوه كثيرة من الإكرام، ويواتر عليهم أصنافًا عديدة من الآلاء والإنعام. فسبحان ربي ما أكرمه! وله الحمد على ما أعطى، وله الشكر على ما أنعم به وأولى. ألا وإن من عطاياه الجسام ونوائله العظام: اصطفاء أزمنة على أزمنة ليستغلها عباده في التقرب إليه، والمسارعة إلى ما يرفع درجتهم لديه. والعاقل من الناس من ينتهز الفرص ويغتنم الفضائل، ولا يجعلها تفوت عليه، وتنطلق من بين يديه إلا وقد أخذ حظه منها؛ فالآجال مجهولة، والأعمار محدودة، والغنائم قد لا ترجع، والغاية التي يرجوها المسلم ثمينة، والدنيا دار التزود بعمر واحد فقط ” وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ” البقرة: 197. والإنسان لا يدري ما يعرض له في الدنيا فيشغله عن زاد الآخرة، فقد يهجم عليه المرض والبلاء، وتستولي عليه أعمال الدنيا وحاجاتها، وقد تأتي عليه شدائد وفتن لا يستطيع معها العمل الصالح. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بادروا بالأعمال؛ فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا” رواه مسلم.
ومن الأزمنة الفاضلة التي ينبغي أن تستغل في الخير: شهر شعبان. فشعبان دورة تدريبية بين يدي رمضان؛ لكي يدخل المسلم شهر الصيام وقد تمرن على المسارعة إلى العمل الصالح. وإنما تسهل الأعمال على من تعود أمثالها قبل مجيئها. إن شهر شعبان شهر استعداد روحي لاستقبال ضيف الروح السنوي، لكن هذا الاستعداد الصحيح لا تعرفه كل النفوس، وإنما تعرفه النفوس المتألقة في سماء الطاعة، التي تصقل القلوب والجوارح حتى يدخل رمضان التحلية بعد رحيل شعبان التنقية. يدخل شعبان على الأرواح الصالحة شهرَ تهيؤ واشتياق لموسم الخيرات الأكبر. ومن أعظم القربات فيه بعد الفرائض قربة الصيام، هذه القربة التي تصلح الأجساد والأرواح والعقول، فلا يخرج شعبان عنهم إلا وقد أخذوا نصيبهم من صيامه؛ حرصًا على الخير واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان” متفق عليه.