ظهر الوعي لديه مبكرا

شعبان لوز.. القاضي الحكيم والقائد الشجاع

شعبان لوز.. القاضي الحكيم والقائد الشجاع

الشهيد شعبان لوز، من القادة العسكريين المحنكين الذين قادوا أكبر المعارك ضد جنود الاحتلال الفرنسي، كان يخطط بعبقرية وينفذ عمليات نقل السلاح وتأمين الذخائر من الشمال القسنطيني نحو منطقة الأوراس.

ولم يقتصر دور الشهيد شعبان لوز على الكفاح العسكري بل كان قاضيا في صفوف جيش التحرير الوطني، يفصل في النزاعات بين المجاهدين والمدنيين الجزائريين.

ولد الحاج شعبان لوز، في 1926 بدوار “العولمة”، ببلدية أولاد قاسم، في دائرة عين مليلة، ولاية أم البواقي، لعائلة ميسورة، ونشأ يتيم الأبوين، ومنذ سنواته الأولى، أظهر تفوقًا لافتًا في الذكاء والرغبة في التعلّم، فبدأ بتلقي علومه الأساسية في الكتّاب التقليدي لقريته، حيث تعلم القراءة والكتابة.

ولم يتوقف الشهيد، عند حدود التعليم الأولي، بل تابع دراسته في اللغة العربية والعلوم الشرعية على يد الشيخ الطيب بوذراع، أحد خريجي جامع الزيتونة، أحد أعرق منارات العلم في العالم الإسلامي.

وهذا التكوين المتين، النادر في قريته في ذلك الزمن، منحه احترامًا كبيرًا وسط محيطه الاجتماعي والديني، وجعل منه مرجعًا في شؤون الدين والقضاء بين الناس.

وبدأت ملامح الوعي السياسي تتشكل لدى الحاج شعبان لوز، في سن مبكرة خاصة بعد أن صدمته مجازر 8 ماي 1945 التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية بحق المدنيين الجزائريين.

وفي هذه اللحظة المفصلية دفعته للانخراط في نقاشات عميقة مع مناضلين من حزب الشعب الجزائري، وهو ما ساعده على بلورة وعي سياسي وطني ناضج مبكرًا، جعله ينخرط فكريًا في النضال من أجل الاستقلال حتى قبل التحاقه الفعلي بالثورة.

في 1951، أدى فريضة الحج ومنها سافر إلى القدس الشريف، حيث أتيحت له فرصة لقاء عدد كبير من الحجاج الجزائريين من مختلف أنحاء البلد، ففتح ذلك الباب أمامه للاحتكاك بأفكار متنوعة حول المسألة الوطنية وأحلام التحرر.

عاد من تلك الرحلة محمّلًا بعدد من الكتب القيمة في الفكر والدين والسياسة، ما عمّق ثقافته الدينية والسياسية وجعل منه مثقفًا عضويًا في زمن كانت فيه الثقافة سلاحًا من أسلحة المقاومة.

وفي 1953، غادر الحاج شعبان لوز إلى فرنسا، حيث استقر في مدينة “كيران” جنوب البلد، وعمل هناك مشرفًا على عدد من العمال الجزائريين.

ولم تكن إقامته في فرنسا بمعزل عن النضال، بل تحوّلت إلى منصة لدعم الكفاح المسلح، حيث بدأ بجمع التبرعات لصالح مناضلي “المنظمة السرية”، الذراع السرية للتحضير للكفاح المسلح.

ومنذ اللحظات الأولى للثورة الجزائرية، انخرط الحاج شعبان في العمل الثوري على الأرض، من خلال الإشراف على جمع الأموال، وتأمين خطوط الدعم اللوجستي، وتقديم الإسناد المادي والمعنوي للمجاهدين، خاصة في منطقة الأوراس، مهد الثورة.

وبحلول عام 1956، وبعد أن اكتشفت السلطات الاستعمارية أنشطته الثورية، لم يجد من سبيل سوى الالتحاق رسميًا بصفوف جيش التحرير الوطني.

كان ذلك إلى جانب قادة ميدانيين بارزين، على غرار بوجمعة صولاج وبوغرارة السعودي، حيث أشرفوا على منطقة ذات أهمية استراتيجية قصوى تربط بين جبال الأوراس والشمال القسنطيني.

في تلك المرحلة، لم يكن الحاج شعبان مجاهدًا فقط، بل حمل أيضًا مسؤوليات قضائية كقاضٍ شرعي لجيش التحرير، فكان يفصل في النزاعات، وينظم الحياة المدنية والعسكرية اليومية في القرى الخاضعة لسلطة جيش التحرير، انطلاقًا من تكوينه الشرعي العميق الذي أهّله ليكون مرجعًا موثوقًا به لدى السكان والمجاهدين على حد سواء.

ومن أبرز المحطات، التي خلدت اسمه في سجل البطولة الجزائرية في مطقة الأوراس، “معركة فم الفج” بإقليم بلدية أولاد قاسم يوم 27 ماي 1956، بتخطيط استراتيجي دقيق من الحاج شعبان لوز، نُفّذ كمين محكم مكّن المجاهدين من القضاء على 22 جنديًا من قوات الاحتلال الفرنسي والعناصر المساعدة لها، دون استشهاد أي مجاهد.

وقد أفضى هذا الانتصار إلى الاستحواذ على كمية كبيرة من الأسلحة والذخائر، ما شكل دفعة قوية للمجاهدين في المنطقة.

هذه المعركة أسهمت في ترسيخ صورة الحاج شعبان، كقائد عسكري محنّك واستراتيجي، إلى جانب دوره الروحي والمعنوي.

وبعد استشهاد القائد بوغرارة السعودي، تولّى الحاج شعبان قيادة المنطقة إلى جانب رفيقه بوجمعة صولاج، وشرع في تنفيذ سلسلة من العمليات النوعية، التي هدفت إلى نقل السلاح وتأمين الذخائر من الشمال القسنطيني إلى معاقل المجاهدين في الأوراس.

ومن أبرز تلك العمليات، عملية أولاد نويّوة، التي كبّدت الجيش الاستعماري خسائر جسيمة، إلى جانب مصادرة كميات كبيرة من العتاد الحربي، ما جعل منها نقطة فاصلة في مسار العمليات العسكرية بالمنطقة.

وبعد أن عجزت قوات الاستعمار عن اعتقاله، لجأت إلى سياسة الانتقام الجماعي، فدمّرت قريته بالكامل، وأضرمت النيران في منازلها، وقتلت عددًا من أفراد عائلته، من بينهم الشهيدان الصديق لوز وحسين بوهالي، اللذان كانا يمدانه بالدعم والمساعدة.

وفي 1958، وأثناء تواجده بمنطقة “طاقزة” التابعة لبلدية سِقوس، وبينما كان يتزود بالماء من بئر، تعرّض الحاج شعبان لوز، لكمين ضبطه خونة، أودى بحياته. لم يستشهد في مواجهة مع الفرنسيين كما كان يُتوقّع، بل بسبب خيانة، كانت دائمًا ما تُقلقه، ويختصرها في عبارته الشهيرة: “الفرنسيون لن يطالوني أبدًا، لكني أخشى خيانة من أبناء جلدتنا”.