عادت ظاهرة حرب العصابات التي اجتاحت الأحياء السكنية لتطفو من جديد، مخلفة وفيات ومآس لعائلات بأكملها نتيجة أسباب قد لا تتعدى حب التسلط والزعامة لشباب يتعاطى أغلبهم المخدرات والخمور التي أصبحت أكثر ما تؤدي إلى شجارات يومية لا تنتهي إلا بسقوط جرحى وحالات رعب في أوساط السكان في أخف الحالات وقتلى في أسوئها.
في الوقت الذي كانت شفرة الحلاقة أو الخنجر “البوسعادي” الأكثر استعمالا في وقت مضى، باتت السيوف و”السينيال” سلاح حروب الشوارع اليوم، ويحرص بعض الشباب على اقتنائها والتباهي بها واللجوء لها وقت الشجارات.
وتشير الدراسة الميدانية الأخيرة التي أعدتها مصالح الدرك الوطني وشملت العديد من الأحياء، حول أسباب حرب العصابات، بأنها ترمي أساسا إلى تزعم الأحياء السكنية من قبل المنحرفين من المسبوقين قضائيا.

مناوشات بنتائج معارك
أرجعت الدراسات الميدانية أسباب حروب الأحياء السكنية، بالدرجة الأولى إلى الوضعية الاجتماعية للمتشاجرين الذين يصعب التحاور معهم من طرف عقلاء الأحياء وحتى من أعوان الأمن، ما يجعل المناوشات تتطور إلى ما يشبه المعارك التي تستعمل فيها مختلف الأسلحة وتنتهي بتعداد الضحايا من الطرفين، وتقول الدراسة إن الصدامات تنطلق من أسباب تافهة كالإزعاج والمعاكسة لتتطور بتضامن شباب الحي الواحد ضد الآخر إلى مشادة بين سكان الحيين للانتقام وقد تتم على مراحل وتطول فترتها.
كما تؤكد ذات الدراسة أن أسباب الظاهرة تعود ولو بصورة غير مباشرة إلى انعدام المرافق العمومية ما يجعل احتكاك شباب الأحياء كثيرا، وهو ما يستدعي توزيع السكان المرحلين من الحي الواحد على عدة مواقع، إضافة إلى توفير المرافق العمومية بالأحياء الجديدة وتمكين سكانها من تشكيل جمعيات ولجان في إطار قانوني، تضم أشخاصا مؤثرين في الحي إلى جانب تفعيل العمل التحسيسي للمدرسة والمسجد قصد توعية الشباب والأولياء.
جمعية حماية الأحداث من الانحراف والاندماج في المجتمع: “90 بالمائة من العنف في الأحياء سببه الأحداث”
أكد علي لعبادي، رئيس جمعية حماية الأحداث من الانحراف والاندماج في المجتمع لولاية الجزائر، في تصريح سابق أن 90 بالمائة من مشكل العنف في الأحياء يعود إلى الأحداث، الذين لا يتعدى سنهم 18 سنة، فالظاهرة التي وصفها المتحدث بالجديدة أبطالها مجموعة من الانتكاسيين أغلبهم خريجي السجون، ولأن هذه الأخيرة لم تعد تراعي طريقة العمل والتوجيه بالمرشدين مثلما كان معمولا به في الماضي، وهذا الفراغ أدى إلى بروز مشاكل من هذا النوع، فبعد خروج السجين مباشرة من المؤسسة العقابية يجد نفسه مصرا على الانتقام بتشكيل جماعات وزعامات تساعده على ذلك وهو ما يعد خطرا على المجتمع.
من جهة أخرى، تقوم الجمعية بخرجات تحسيسية ودورات ميدانية بالأحياء لمناقشة ومعالجة الظاهرة، خاصة بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها منطقة أولاد منديل بالدويرة، وفي الوقت نفسه تدخل كل الأطراف لحصر هذا المد الداهم قبل أن يتحول إلى ترهيب وترويع يهدد سلامة المواطنين.
مختصون في علم الاجتماع:
الترحيل غير المدروس سبب العنف في الأحياء الجديدة
أجمع المختصون في علم الاجتماع على أن استفحال ظاهرة العنف بين الأحياء الجديدة، يعود إلى غياب دراسات اجتماعية وسوسيوثقافية قبل القيام بعمليات الترحيل التي وصفها بالعشوائية وأنتجت، حسبه، اختلالا في التوازن بين مختلف الأحياء كمن يصب “الزيت على النار” ما سمح لما يعرف بجماعات تريد التسلط والهيمنة على الحي بالظهور وأنتج صراعات وموجات عنف وصدامات، مشيرا إلى أن انهيار قيم المواطنة ودور الأسرة ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني جعل الأحياء السكنية تتشبع “بالعنف والإجرام”.
وتعود معظم الصدامات التي تحدث في هذه الأحياء لأسباب تافهة ظاهريا، لكنها تخفي في باطنها أسبابا أكثر تعقيدا منها الوضعية الاجتماعية للمتشاجرين، الذين يعاني معظمهم من البطالة ونقص التكوين، ليجد رجال الأمن أو عقلاء الأحياء صعوبة في التحاور معهم، وما يعقد الوضع أكثر، حسب ذات المتحدث، غياب المرافق الضرورية بين هؤلاء المرحلين، حيث تفتقد الأحياء لمرافق التسلية ودور الشباب والأماكن التي تستطيع امتصاص وقت وطاقة الشاب، وللسلطات المحلية دور كبير في تطويق الظاهرة من خلال التنمية على مستوى الأحياء، إضافة إلى ضرورة تفعيل دور المجتمع المدني في الحي لتفادي مثل هذه الشجارات والتوجه نحو التوعية الاجتماعية قبل العقاب والتوجيه إلى السجن، كما يؤكد المختصون أن ما يحدث كظاهرة تعد عادية خاصة أن هذه المواجهات وأعمال العنف عادة ما تختفي بعد مرور أقل من سنة بفعل انسجام التركيبة السكنية مع بعضها وكذا بفعل تدخلات الأجهزة الأمنية بعد ذلك لتصفية هذه الأحياء من المجرمين، لكن باطن هذه الظاهرة وما تخفيه من نزعة عنف بدأ الشباب الجزائري في كسبها أمر يعد جد خطير ويستدعي حلولا سريعة من أجل احتواء الوضع والتعامل مع العنف كظاهرة بالشكل المناسب.

مختصون في قضايا جنح الأحداث يحذرون من تفشي الظاهرة
حذر مختصون في قضايا جنح الأحداث خلال ندوة تحسيسية بالجزائر العاصمة حول “العنف الجماعي داخل الأحياء السكنية الجديدة بالعاصمة” من تفشي الظاهرة ونتائجها الوخيمة على المجتمع مستقبلا.
ودعوا إلى تفعيل دور جمعيات المجتمع المدني والعمل التحسيسي للمدرسة والمسجد، قصد توعية الشباب والأولياء لمكافحة الظاهرة.
وفي ذات الصدد، أكدت المختصة الاجتماعية فاسي زهرة أن الأسباب الرئيسية للظاهرة التي تطورت خلال السنوات الأخيرة حتى أصبحت تهدد الأمن العام تعود إلى محاولة “تزعم” هذه الأحياء السكنية من قبل منحرفين ومسبوقين قضائيا يغذون العنف بين مختلف التشكيلات.
وأشارت إلى ارتفاع ظاهرة جنوح الأطفال وتورطهم في أخطر الجرائم على غرار القتل العمدي والجرائم الأخلاقية، إلى جانب السرقات، المخدرات وتخريب أملاك الغير في المدارس والملاعب وجرائم التعدي على الأصول.
وثمّن رئيس جمعية حماية الأحداث من الانحراف والاندماج في المجتمع دور مختلف الأجهزة الأمنية في التكفل الفوري بمختلف حالات الشغب التي يثيرها “بارونات المخدرات” بالأحياء الجديدة.
وأشار المتحدث إلى أن هؤلاء المسبوقين قضائيا يستغلون الأطفال والمراهقين لتغذية الشجارات والعنف، وتشكل حروب الشوارع والعصابات بذات الأحياء 70 بالمائة من القضايا المعالجة من طرف الأمن الوطني.
من جهتها، أكدت الملازم أول سعاد أونيس رئيسة خلية الاتصال بالمجموعة الإقليمية للدرك الوطني للعاصمة، أن هذه المصالح اتخذت إجراءات عملية وسخرت وسائل معتبرة من أجل الحد من الظاهرة التي “أصبحت تؤرق المجتمع واتخذت منعرجا خطيرا خلال السنوات الأخيرة”.
وفيما يتعلق بالإجراءات المتخذة، أشارت إلى “تعزيز وإنشاء مقرات أمنية جديدة داخل هذه التجمعات السكنية وتدعيم تواجد عناصر الدرك الوطني، عبر استحداث وحدات إقليمية وفصائل التدخل لاستتباب الأمن بالأحياء والقضاء على بؤر الإجرام”.
وعن قائمة الأحياء العاصمية التي تم تعزيزها بمرافق جديدة سواء فرقة إقليمية أو فصائل للتدخل لسلك الدرك، أشارت إلى أحياء 684 مسكن بالرمضانية، حي الشعيبية ببئر توتة، حي 1868 بسيدي امحمد، حي سيدي سليمان بخرايسية، حي 1022 بأولاد منديل، حيي 768 و662 بهراوة بالرويبة.
كما ضبطت ذات المصالح قائمة وقاعدة بيانات للعناصر المشتبه فيهم من ذوي السوابق المتورطين في أعمال الشغب داخل الأحياء الجديدة، من خلال بطاقية ولائية لهؤلاء عبر الاستعلام عنهم من مقرات إقاماتهم الأصلية ومراقبتهم باستمرار.
وتضيف ذات المسؤولة أنه يجب تنظيم دوريات ليلا ونهارا لفرق الدرك داخل هذه التجمعات السكنية الجديدة، إلى جانب حملات تحسيسية بمرافقة عقلاء الأحياء للتحسيس بخطورة هذه الظاهرة.
وأرجع جلول حجيمي رئيس نقابة الأئمة ارتباط ظاهرة العنف داخل الأحياء الجديدة بتبعات مرحلة الإرهاب بالجزائر، وما أفرزته من سلوكات عنيفة دخيلة على المجتمع الجزائري وقيمه، فضلا على انتشار الآفات الاجتماعية كالمخدرات والأسلحة البيضاء.
كما شدد على دور الإمام في التوجيه والتوعية، مشيرا إلى أن هذا الأخير يجب أن يمارس دوره داخل المجتمع ويحتك بالأفراد لإرشادهم وتوعيتهم وحثهم على سلوك الطريق المستقيم والابتعاد عن طريق الجريمة.
وطالب المتحدث بتوفير المرافق العمومية بالأحياء السكنية الجديدة ومدارس ومراكز العلاج ووسائل النقل ومراكز ثقافية ومساجد وأماكن الترفيه وغيرها، التي من شأنها التقليل من هذه الظاهرة لاحتواء شباب الأحياء.