سندي ذهب

elmaouid

بعد جهد كبير تعالت الأقدار ونسفت تلك الآمال المتدافعة حول فجوة قد بزغت أنوارها للملأ، فتصاب بخيبة أكبر من أختها صعقت من فورها حينما سمعت رحيل سندها الأخير وصاحب قلبها الأبدي، أباها الذي حضنها صغيرة وعانقها وهي كبيرة، أباها الذي حواها ضعيفة ثم بلغت رشدا فأواها بشدة، تنازعت روحها وتداخلت ألامها لتنخر ضعفها وتسعى لشقاء أبدي مع وحدة تأنسها طيلة هذا العمر الفاني مثل الظل الذي يتبعها تحت ضوء القمر، وتصبح كالتعيسة بحياتها وموتها، تدفعها أمواج الواقع للهاوية وتحرقها شظايا الشوق لأبيها، الذي ما لبث تعلقها به، حتى غادر غرفتها وبيتها وحياتها ولحظاتها إلى عالم حقيقي عند برزخ رب السماوات، الحياة تقسو على كل من يفقد جزءا منه أو يختار مسارا صعبا يؤدي به لنهاية حتمية، وكل من استند على حائط صلب قد ينهار فجأة ويتركه في العراء تتلاطم فيه أوجه الرياح، وتدفعه للفراغ الروحي حتى ينسى مسؤولياته ويندثر بعد ذلك مثل ورقة تمردت على غصنها فحملتها الرياح لمكان مجهول.. بقيت ملتزمة غرفتها والألم يمتص أحلامها ليجعلها تنسى عبور جسر الصبر الذي يصل بين قضاء وقدر، فهي بمثابة اللعبة المرمية في منتصف الطريق، لم يلتقطها أحد ليحتفظ بها، ولم تتركها النعال لتدهس عليها كل لحظة، انتفضت من مكانها والوجه قد إصفر من حزنه الثقيل، وذبلت عيناها مثل زهر الوادي الذي جرفه التيار، وحط به بجانب مستنقع تقبع فيه ظلال الشمس، فلا غصن حمله ولا ريح ألقت به باليم، بقي يفقد حياته شيئا فشيئا، ثم اتجهت لخزانتها، ومدت يدها، والتعب أخذ شوطا من جسدها لتفتح أحد أبوابها وتلتقط صندوقا صغيرا به أشيائها الثمينة، ثم عادت لسريرها وبدأت بالبكاء الشديد والدموع تتساقع كالندى المنساب على حافة أوراق الأشجار، ما لبثت من أمرها حتى فتحته ووجدت رسالة معها قلم وصورة أبيها، لم تتحمل نظراتها على تلك الصورة وهو مبتسم متفائل يراقب حزنها المتناثر حولها، وهالة الخوف ترافقها، إلى أن ضمت الصورة بقوة واحتضنتها والدمع أخذ سيرورة في وجهها، هنيهة من شوق وحنين لأبيها أخذت تفتح الرسالة وتقرأ ما بداخلها.. ابنتي العزيزة الفتاة المتفائلة التي ملأت فراغ حياتي حينما ولدت، وأدخلت الفرحة لقلبي حينما حملتها رضيعة بين يداي، ها أنا أغادرك كما كتب لي وأترك ورائي قطعة روحي… اليوم مرت أيام علي وأنا بدونك أعرف أن هذا صعب عليك، لكن الحياة تأخذ وتعطي، وسنة الله في كونه، شوقك كبير وحزنك علي أكبر، قد يطول الفراق ليكون اللقاء أجمل، وينتهي هذا الحزن الذي غطى ملامحك الجميلة، ابنتي حزنك علي لن يغير شيئا، وشوقك لي لن يرجع شيئا، بكائك علي لن يعيد شيئا، ستبقى الأيام هكذا بدون أو بي، لكن لا تنسي مسؤولية العائلة عليك، أنت بلغت الثانية والعشرين، وأصبحت شابة قادرة على حمل هذا العبء، إخوتك صغار وأمك تحتاج سندا مثلك يرفق بها ويخفف من حزنها علي، ويعينها على عبور هذا الوجع بصبر واحتساب وذكر، أخيرا اهتمي بنفسك ولا تهمليها، حاولي التفوق بدراستك ولا تتراجعي عن أحلامك، أمس كنت معك واليوم لست كذلك أنت روح هذه العائلة فكوني أهلا لهذا المقام… طوت الورقة ويداها ترتجفان وأجهشت بالبكاء وهي تمسك الرسالة بقوة ثم استلقت على سريرها وغطت نفسها والحزن يضم وجهها، حتى غرقت في نوم عميق والبكاء ترك تبسمها مجهولا وغدت في أحلامها تحبو ناحية الأمل الذي ينتظر، النهايات التي نواجهها بعد كل حدث فيها، هي بمثابة قوة تنسجم بداخلنا وتعلو بنا لنضج آخر، نصبح فيه أصحاء العقول بالغي الرؤى مدركين هدف الوجود وما يؤول إليه، وتتركنا الأقدار نصارع هذه الحياة كل له ناصية من الأنفاس المتبعثرة حول هذا الكون، نسير على طريق واحد ونجسد خلفيات مختلفة.. ضم الليل الفتاة وبيدها قطعة قد ذهبت للأبد، وتركت عيونا تشتاق، وقلب يتألم بين نبض ونبض، وتاهت الأيام بسرعة في هذا الضجيج المتراكم حول خبايا القدر، لتكون النهاية هكذا، فراغ أبدي وتفاؤل أزلي، يحمل آهات فتاة فقدت أباها أمسا..

أحمد الشافعي ملكي