سنة كاملة مرت على رحيله… أعمر الزاهي “فيلسوف الفن الشعبي”

elmaouid

سنة كاملة مرت على رحيل الفنان الشعبي أعمر الزاهي، وسيتذكر عشاق الأغنية الشعبية سليلة الفن الأندلسي، تلك الجنازة المهيبة التي شلّت كل شيء في العاصمة، من أجل أن تودع ذلك البلبل الذي صدح

نغما راقيا، وظل وفيا لمدرسة فنية تقاوم في صمت، أمام هجمة الميوعة والتفسّخ الموسيقي.

 

الزاهي واحد من أعمدة الأغنية الشعبية والفن الجزائري التي سخّرت مسيرتها الفنية من أجل أن تبقى للمغنى قيمة ورسالة للفقراء فيها نصيب، كما هو الشأن للنخبة والأرستقراطيين، فقد أضفى بشخصيته الكريمة والمتواضعة لمسة اختزنت الوجه الآخر للمجتمع وجسدت ذوقا فنيا جمع بين الطرب والحكمة وتربية الأجيال.

ولا يزال سكان العاصمة يتذكرون كيف شُيع ذلك الجسد النحيل إلى مثواه الأخير بالتهليل والزغاريد في أجواء من الحسرة والحزن، ليذهب الجسد إلى مكانه، وتبقى راية الفن الراقي والذوق السليم شامخة، كما أرادها الراحل.

رحل الزاهي عن الدنيا حاملا معه فلسفته وأسراره إلى الأبد، لكنه خلف وراءه قيما فنية وأخلاقية زرعها على مر العقود، فقلوب الآلاف من الجزائريين ما زالت تنبض للفن الراقي وقيم التسامح والتواضع.

يشكّل الزاهي رمزا من رموز الموسيقى الشعبية، ويعتبر أحد فلاسفة الفن الشعبي لأنه يدرك رغم عصاميته وعدم تخرجه من كبرى المدارس الموسيقية أن الفن رسالة للتربية الخلقية والتهذيب النفسي والتأطير الاجتماعي، ولذلك ظل نصير الفقراء وحافظ نصيبهم في التمتع بالموسيقى، فغنى لليتامى والمهمّشين والمسحوقين، ورفض أن يكون تاجرا بما وهبه الخالق من قدرات ومؤهلات فنية.

ظل طول حياته متعففا راضيا بنصيبه وقانعا بعيشته البسيطة في بيته المتواضع، بل كان كريما ومتصدقا بما لديه، ورافضا لكل أشكال الإغراء وفرص الثراء، كما يفعل الكثير من تجار الفن، فرد بالسلب على دعوات التكريم والأضواء.

ويقول أصدقاء الزاهي “يصعب لحي الرونفالي بل يصعب للعاصمة أن تنسى فنان الشعب، فقد كان أعميمر بسيطا وخجولا ومتعففا، وصديق العائلات الجزائرية ومُحيي أفراح الفقراء.. لقد كان المال والربح المادي آخر همه، بل أحيانا كان هو الذي يدفع من جيبه”.

غير أن البعض يرى أن عزلة الزاهي ساهمت في عزل الموسيقى الشعبية وانحسارها أمام الطبوع الأخرى، وأن رفضه حمل الفن الشعبي من الأحياء الشعبية إلى القاعات الكبرى والمهرجانات والإعلام، بقدر ما حمل قيمة الوفاء والبساطة بقدر ما سمح بتوسع الرداءة والسفه الفني والموسيقي على حساب الرسالة الفنية والذوق السليم، لكن جنازته أكدت بالفعل عراقة وشهرة وشعبية الموسيقى الشعبية في الجزائر، وأثبتت أن رفضها للأضواء لا يعني انسحابها أو نهايتها.

الفنانة الكبيرة الراحلة وردة ووزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي فشلتا في إعادة الزاهي إلى الساحة بعد أن قرر الابتعاد. وحتى حين أمر الرئيس بوتفليقة بتحويله للعلاج في فرنسا، رفض بأدب.

وكانت انطلاقته الفنية في سبعينات القرن الماضي خاصة مع الراحل محبوب باتي والباجي والقصائد العريقة، حيث سجل خمس أسطوانات، وقدّم أول شريط غنائي له سنة 1982 وكان بعنوان “يا ربّ العباد”، ألحقه بعدّة تسجيلات لعدة أغاني منها “يا ضيف الله”، “الجافي”، “زينوبة”، “يا قاضي ناس الغرام”، “يا الغافل توب” وغيرها.

وقد لعبت البيئة دورها في تنشئة شخصية الزاهي، حيث عاش يتيما بعد وفاة والده وهو طفل صغير ثم حملته عمته لتربيته ورعايته ببيتها في حي الرونفالي بضاحية باب الوادي، وهي أكبر الضواحي الشعبية بالعاصمة، حيث يتفشى التهميش والحرمان، لكن بالمقابل تلقن بالموازاة معهما قيم الأنفة والرجولة والكبرياء، وربما تكون صدمات نفسية قد دفعت بالرجل إلى الانكفاء مبكرا والزهد في هذه الدنيا.

وشرع في الغناء مطلع الستينات وهو لم يتجاوز الـ22 سنة، مقتفيا أثر أستاذه الفنان بوجمعة العنقيس الذي تأثر به كثيرا. لكن الزاهي انسحب مبكرا من الأضواء، وكان آخر حفل نشطه بقاعة ابن خلدون بالعاصمة في نهاية الثمانينات، وآخر حضور إعلامي له يعود إلى العام 1990 عندما حضر تكريما بإذاعة “البهجة” للراحل الحاج العنقى، ومذاك اقتصر حضوره على الأعراس العائلية التي كان يحييها في أغلب الأحيان دون مقابل.

لم يستطع لا رفاقه ولا زملاؤه ولا حتى كبار الفنانين والمسؤولين إعادة الزاهي للواجهة إلى أن فارق الحياة، حيث فشلت الفنانة الراحلة وردة ووزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي في إعادته إلى الساحة.

وحتى حين أمر الرئيس بوتفليقة بتحويله للعلاج في فرنسا رفض بأدب، بينما يقيم غيره الدنيا ولا يقعدها لمزية كهذه، وظل معتذرا عن الأضواء الإعلامية، حيث لم تسجل له مقابلات أو تقارير في أي من وسائل الإعلام.

ووصفت الوزيرة تومي الفنان الزاهي بـ “المعرّي”. فكان هذا الوصف الأقرب إلى قراءة شخصية ذلك الفنان الزاهد المتعفف والقنوع، وقالت بشأنه “أعمر الزاهي مدرسة للفن الأصيل، اهتزت مدينة سيدي عبد الرحمن لرحيله، كيف لا وهو شيخ الشيوخ الذي اختار أن يكون إلى جانب الشعب”. وأضافت “سعيت لتكريم الزاهي وذهبت إلى بيته المتواضع، ورجوته أن نقيم له تكريما على غرار التكريمات التي كانت تقام لعدد من الفنانين، لكنه اعتذر لي وقال: لا أستطيع أن أقبل بهذا التكريم لأنني ساعتها أكون قد قتلت نفسي، مستحيل أن أقبل بهذا”.

وتتابع تومي “رفض أعمر الزاهي للتكريمات الرسمية لا يعود إلى موقف الفنان من السلطة، لكنه يعود إلى قناعة وفلسفة عميقة تميَّز بها في حياته، فقد كان زاهدا في الدنيا، وتعوّد أن يحيي حفلات البسطاء فقط، وكان يرفض إحياء الحفلات التي تقام مثلا في الفنادق الفخمة. لقد كان مدرسة أصيلة في فنه وظاهرة من المستحيل تكرارها، بل هي إحدى الهبات التي حبا بها الله الشعب الجزائري، فقد كان مثل أبو العلاء المعري زاهدا في الدنيا متصوفا في فنه”.

 

الراهب والنسيان

نسجت حول حياة الزاهي قصص وروايات، وصل بعضها إلى حدود الأسطورة. وأبرز ما يحكيه المقربون منه أنه قضى حياته أعزب ولم يتزوج طول حياته، ويردد هؤلاء في شهادات تناقلتها وسائل إعلام محلية بأن “أعميمر، أحبَّ فتاة من حيِّه إلى حدود الجنون، وحدث أن سافر إلى فرنسا لقضاء العطلة، ولما عاد طلب منه إحياء حفل فلبى الدعوة مثلما تعوّد دائما أن يفعل، ولم يكن يعلم أن العروس هي فتاته التي عشقها، وبعد أن علم بالحقيقة، أصيب بصدمة قوية، وقرر ألا يتزوج إلى الأبد، وقد نظم في حق محبوبته قصيدة خلدتها”.

أعمر الزاهي واحد من أعمدة الأغنية الشعبية والفن الجزائري التي سخرت مسيرتها الفنية من أجل أن تبقى للمغنى قيمة ورسالة للفقراء فيها نصيب، كما هو الشأن للنخبة والأرستقراطيين.

وعرف عن الزاهي شغفه بلعبة الكرة المستديرة، التي تشكل الاهتمام الأول في الحي الذي يضم ناديين عريقين في العاصمة والجزائر عموما وهما المولودية والاتحاد، ورغم الحساسية المفرطة بين أنصارهما، إلا أن أعمر الزاهي ظل محتفيا بهما معا، ومتابعا حريصا لأخبار اللعبة، ومناصرا لفريق برشلونة الإسباني في الكرة العالمية.