-
خطوات الاحتلال تتسارع نحو إعادة احتلال غزة وتهجير أهلها قسرا
-
الجزائر تحذر من وهم السلام في ظل الاحتلال
جاءت رسالة الجزائر عقب مؤتمر حل الدولتين لتكشف أن “السلام لا يُبنى بالبيانات الختامية، وإنما بإرادة سياسية توقف نزيف الدم وتضع حدا لسياسة الإبادة”.
فبينما أكد المجتمع الدولي في المؤتمر على قيام دولة فلسطينية مستقلة كـ”إطار وحيد” للتسوية العادلة، تتسارع على الأرض خطوات الاحتلال نحو إعادة احتلال غزة وتهجير أهلها قسرا، في تجاهل فاضح لقرارات الشرعية الدولية. هذا التباين، الذي وصفته الجزائر بـ”الرهان على وهم السلام”، يفضح ازدواجية الموقف الدولي، ويضع مؤسساته أمام اختبار حقيقي لمدى قدرتها على ترجمة أقوالها إلى أفعال توقف المأساة المستمرة منذ عامين. منذ عقود، اعتادت المؤتمرات الدولية حول القضية الفلسطينية أن تصوغ بيانات تؤكد على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وتضع خططا ومسارات للتسوية السلمية. مؤتمر حل الدولتين الأخير لم يكن استثناء، إذ خرج بإجماع على أن قيام دولة فلسطينية مستقلة هو “الإطار الوحيد” القادر على إنهاء الصراع وتحقيق السلام الدائم. لكن هذه الوعود، مهما بدت رنانة، تظل حبيسة القاعات المغلقة، في ظل غياب آليات تنفيذية ملزمة، وهو ما يجعلها أقرب إلى رسائل تطمين مؤقتة للجماهير أكثر من كونها خطوات عملية نحو التغيير. غير أن التجربة التاريخية أثبتت أن هذه المؤتمرات، رغم كثرتها، لم تتمكن من وقف الاستيطان أو منع الحروب، بل في أحيان كثيرة جاءت مقرراتها كغطاء سياسي يتيح للاحتلال مواصلة مشاريعه على الأرض. فالمجتمع الدولي، وهو يردد شعاراته الداعمة لحل الدولتين، يغض الطرف عن الخروقات اليومية، في تناقض يفرغ تلك الشعارات من مضمونها. هنا، يصبح المؤتمر مناسبة لالتقاط الصور وتبادل المجاملات أكثر من كونه منصة لاتخاذ قرارات جريئة توقف الانتهاكات. ويأتي موقف الجزائر في هذا السياق، ليضع إصبعه على الجرح، فالتصريحات التي تطلق من المنابر العالمية لا يمكن أن تظل منفصلة عن الواقع الميداني. من منظور الجزائر، الحديث عن الدولة الفلسطينية بينما غزة تتعرض للقصف والحصار هو “مفارقة أخلاقية وسياسية” تكشف غياب الإرادة الفعلية لتغيير ميزان القوى. لذلك، فإن موقفها يتجاوز مجرد التنديد إلى المطالبة بترجمة القرارات إلى خطوات عملية توقف التدهور الإنساني والسياسي. هذا الفارق بين القول والفعل هو ما تحذر منه الجزائر، إدراكا منها أن استمرار هذه الهوة يعني إفراغ المؤتمرات من معناها، ويترك الساحة مفتوحة أمام الاحتلال لفرض وقائع جديدة. ومع أن المؤتمرات توفر أرضية مشتركة للحوار، فإنها بلا آليات إلزامية تبقى عاجزة عن حماية الحقوق التي تزعم الدفاع عنها. من هنا، تشكل دعوة الجزائر لتحويل مقررات المؤتمرات إلى التزامات قانونية خطوة نحو إعادة الاعتبار لمفهوم الشرعية الدولية وجعلها أداة فاعلة لا مجرد شعارات متكررة.
مخططات الاحتلال.. والرفض الجزائري
بينما كان من المفترض أن يشكل مؤتمر حل الدولتين أرضية جديدة لتحريك المسار السياسي نحو التسوية، جاءت التطورات الميدانية لتكشف عن مسار معاكس تماما، إذ أعلنت سلطات الاحتلال عن مخططات لإعادة احتلال قطاع غزة عسكريا وتهجير سكانه قسرا، في خطوة تتحدى بشكل مباشر القرارات الأممية ومخرجات المؤتمرات الدولية. هذه المخططات هي امتداد لسياسة ممنهجة تهدف إلى إعادة صياغة الخريطة الديموغرافية والسياسية للمنطقة، بما يخدم رؤية الاحتلال طويلة المدى.
الجزائر، التي تابعت هذه التطورات بدقة، استخدمت لغة واضحة وحازمة تصف هذه التحركات بأنها “رهان على تقويض السلام في المنطقة برمتها”. فبالنسبة للجزائر، لا يمكن فصل ما يحدث في غزة عن مجمل المشروع الصهيوني الرامي إلى إلغاء أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة، وهو ما يجعل هذه المخططات خطا أحمر يمس جوهر الأمن الإقليمي ويمتد تأثيره إلى استقرار الشرق الأوسط بأسره. ويتجاوز الموقف الجزائري البعد الإنساني ليصل إلى قراءة استراتيجية للمشهد، إذ تدرك الجزائر أن إعادة احتلال غزة لا تعني فقط كارثة إنسانية جديدة، بل تمثل أيضًا محاولة لإنهاء أي مسار سياسي محتمل في المستقبل القريب. لذلك، فإن خطابها يربط بين وقف هذه المخططات والحفاظ على فرصة، ولو ضئيلة، لإحياء عملية السلام على أسس عادلة. بهذا المعنى، يصبح موقف الجزائر جزءًا من معركة سياسية أوسع تهدف إلى منع تكريس سياسة الأمر الواقع التي يسعى الاحتلال إلى فرضها. هذا الرفض القاطع يعكس ثبات الجزائر في مواقفها تجاه القضية الفلسطينية، إذ تنظر إليها باعتبارها قضية تصفية استعمار لم تكتمل بعد، وليست مجرد نزاع إقليمي يمكن حله بتسويات جزئية. من هنا، فإن رفضها للمخططات الإسرائيلية ليس موقفا طارئا، بل امتداد لسياسة خارجية متجذرة تضع الدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها في صميم أولوياتها، وتجعل من فلسطين قضية مركزية في خطابها الدبلوماسي على الساحة الدولية.
ازدواجية الموقف الدولي كأداة ضغط دبلوماسي
في خضم هذا التناقض بين ما يعلن في المؤتمرات وما يجري على الأرض، وجدت الجزائر في ازدواجية الموقف الدولي أداة قوية لفضح عجز المؤسسات الأممية عن حماية قراراتها. فبينما يصوّت المجتمع الدولي على قرارات تؤكد حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، تتواصل على الأرض سياسات الاحتلال بلا رادع، في مشهد يختزل هشاشة النظام الدولي أمام مصالح القوى الكبرى. هذا التناقض، الذي يصفه الخطاب الجزائري بـ”الشرعية الانتقائية”، يمثل نقطة انطلاق لمساءلة المجتمع الدولي عن مصداقيته وقدرته على إنفاذ ما يتبناه من مبادئ. الجزائر تدرك أن كشف هذه الازدواجية، هو وسيلة لتعرية منطق المعايير المزدوجة الذي يحكم مواقف بعض الدول الفاعلة، وخاصة في مجلس الأمن. فحين يُفرض على دول أخرى التزامات وعقوبات فورية عند خرق القانون الدولي، بينما يُسمح للاحتلال الإسرائيلي بتجاهل القرارات الأممية لسنوات طويلة، يصبح من السهل إظهار حجم التحيز والانحياز الذي يقوّض مفهوم العدالة الدولية. في هذا الإطار، تتحول الرسالة الجزائرية إلى نداء يتجاوز حدود القضية الفلسطينية ليطال مصداقية النظام العالمي برمته. كما تسعى الجزائر من خلال هذا الخطاب، إلى تعبئة الرأي العام الإقليمي والعالمي، مستفيدة من التعاطف الشعبي الواسع مع الشعب الفلسطيني، لزيادة الضغط على الحكومات والمؤسسات الدولية. هذه المقاربة تمنح الموقف الجزائري بعدًا دبلوماسيا نشطا، حيث لا يقتصر على السجال السياسي في المحافل الرسمية، ويمتد إلى حشد الأصوات في الشارع العربي والإسلامي وحتى الغربي، بهدف خلق بيئة ضاغطة تُصعّب على الدول الكبرى الاستمرار في تجاهل الواقع. هذا الاستخدام الذكي لفضح الازدواجية الدولية، يندمج بسلاسة مع السياسة الخارجية الجزائرية التي تميل إلى العمل المتعدد المسارات، فبينما تدعو رسميا إلى التزام القرارات الأممية، تعمل في الوقت نفسه على تعرية الممارسات المناقضة لهذه القرارات أمام الرأي العام. وبذلك، يصبح خطابها أداة استراتيجية لتقويض الخطاب المزدوج، ودفع المجتمع الدولي إلى مواجهة تناقضاته قبل أن تتحول المؤتمرات إلى مسرحيات دبلوماسية بلا أثر حقيقي.
من الأولوية الإنسانية إلى الحل السياسي الشامل
وفي ظل الكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزة، حرصت الجزائر على التأكيد أن الاستجابة الفورية لاحتياجات السكان ضرورة عاجلة تمثل حجر الأساس لأي مسار نحو الاستقرار. فالأوضاع الميدانية، بما تحمله من حصار خانق ونقص حاد في الغذاء والدواء والمياه، تجعل من التدخل الإنساني السريع أولوية لا يمكن تأجيلها. ومع ذلك، تشدد الجزائر على أن معالجة الأزمة الإنسانية، مهما كانت ملحّة، لا يجب أن تُختزل في تقديم المساعدات فقط، بل يجب أن ترتبط برؤية سياسية طويلة المدى تعالج جذور الصراع. هذا الربط بين البعد الإنساني والسياسي، يعكس إدراك الجزائر لخطورة الفصل بينهما، إذ ترى أن الاكتفاء بإغاثة عاجلة دون تحرك سياسي جاد يعني ببساطة إطالة أمد المعاناة، وترك المجال مفتوحا لتكرار المأساة. لذلك، تعتبر أن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف هو استحقاق تاريخي “غير قابل للتصرف وغير قابل للتقادم”، يشكل الضمانة الوحيدة لعدم تكرار المآسي التي يعيشها الفلسطينيون اليوم. كما أن الجزائر، من خلال هذا الموقف، تدعو المجتمع الدولي إلى تجاوز منطق “إدارة الأزمات” نحو تبني منهج “حل الأزمات”. فهي ترى أن سياسات الترقيع الإنساني التي تقتصر على إرسال مساعدات وقتية، دون معالجة الاحتلال كجذر للصراع، هي سياسات محكوم عليها بالفشل. هذا الطرح يعيد توجيه البوصلة نحو أن أي مبادرة إنسانية يجب أن تكون جزءًا من عملية سياسية متكاملة، تُلزم الاحتلال بوقف اعتداءاته وتؤسس لسلام حقيقي قائم على العدالة. وبهذا، فإن الخطاب الجزائري لا يترك مجالًا للفصل بين الإغاثة الإنسانية والحل السياسي، بل يدمج بينهما في معادلة واحدة: إنقاذ الأرواح اليوم، وحمايتها غدًا عبر إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية. هذه الرؤية المتكاملة تمنح الموقف الجزائري قوة إضافية، لأنها لا تكتفي برفض الواقع أو شجب الانتهاكات، بل تقدم مسارا عمليا يجمع بين العاجل والمستقبلي، ويحول التضامن مع غزة من شعار إلى التزام سياسي وأخلاقي طويل الأمد. في المحصلة، يضع الموقف الجزائري العالم أمام مرآة تكشف بوضوح التناقض بين الشعارات المرفوعة في المؤتمرات والحقائق القاسية على الأرض، مؤكدا أن “السلام العادل يولد من قرارات جريئة توقف العدوان وتكسر منطق الاحتلال”. ومن خلال الربط بين الإغاثة العاجلة والحل السياسي الشامل، تذكّر الجزائر المجتمع الدولي بأن غزة قضية تحرر وحق تقرير مصير، وأن تجاهل هذا البعد يعني إعادة إنتاج المأساة ذاتها بأشكال أشد قسوة، ما لم يتحول التضامن إلى فعل يفرض على الاحتلال احترام القانون الدولي ويعيد للشعب الفلسطيني حقه الكامل في أرضه ودولته.