سقوط حكومة بايرو يكشف عمق الانهيار السياسي والاقتصادي لفرنسا

أزمة مزدوجة تهز “الجمهورية الخامسة”.. الأزمة السياسية الفرنسية تدخل مرحلة انسداد غير مسبوق

أزمة مزدوجة تهز “الجمهورية الخامسة”.. الأزمة السياسية الفرنسية تدخل مرحلة انسداد غير مسبوق
  • مديونية قياسية وعجز مالي مستمر منذ أكثر من نصف قرن

 

  • احتقان شعبي متصاعد يكشف التناقض بين صورة فرنسا القوية وواقعها الهش

 

  • سقوط بايرو يفضح تآكل شرعية ماكرون ويضع الرئاسة في قلب العاصفة

يعد سقوط حكومة فرانسوا بايرو داخل الجمعية الوطنية الفرنسية، مؤشرا صارخا على أزمة بنيوية تتجاوز شخص رئيس الوزراء لتكشف عمق المأزق الذي تعيشه الجمهورية الخامسة.

ففي جلسة استثنائية صوّت المشرّعون بأغلبية واسعة على سحب الثقة، ليدخل المشهد السياسي الفرنسي مرحلة فراغ حكومي ينذر بمزيد من الارتباك. وبينما كانت الأنظار تتابع الصراع داخل البرلمان، كانت الأرقام الاقتصادية تدق ناقوس الخطر: “مديونية متفاقمة تجاوزت 3415 مليار أورو” وعجز مالي مستمر منذ أكثر من نصف قرن. هكذا يتقاطع المسار السياسي المنهك مع الواقع الاقتصادي المنحدر، ليضع فرنسا أمام أزمة مزدوجة تهدد استقرارها الداخلي ومكانتها الدولية على حد سواء.

 

سقوط حكومة بايرو.. شرارة أزمة سياسية مفتوحة

لم يكن التصويت على حجب الثقة مجرد ممارسة برلمانية عادية بقدر ما كان حدثا سياسيا يعكس حالة من التصدع العميق داخل النظام السياسي الفرنسي. فالحكومة التي لم تصمد أكثر من تسعة أشهر، وجدت نفسها في مواجهة أغلبية نيابية قررت إسقاطها في جلسة استثنائية بأغلبية ساحقة بلغت 364 صوتا. هذه النتيجة تكشف عن فقدان الحكومة لأي غطاء سياسي حقيقي، وعن هشاشة التحالفات التي بنيت عليها، الأمر الذي يعمق الإحساس العام بأن السلطة التنفيذية في فرنسا باتت ضعيفة وغير قادرة على فرض خياراتها. الخطورة في هذا التطور تكمن في أنه يعكس بداية مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي، حيث لم يعد الأمر يتعلق بوجهة نظر حول الميزانية فقط، وإنما بمناخ من التآكل المستمر للثقة بين الطبقة السياسية. لقد تحولت الجمعية الوطنية إلى ساحة مواجهة مفتوحة، ليس فقط ضد رئيس الوزراء، بل ضد السياسات الحكومية ككل، في مشهد يترجم غضبا سياسيا واجتماعيا تراكم عبر سنوات من الإصلاحات غير الشعبية. وهذا يعني أن فرنسا مقبلة على مزيد من التوتر السياسي مع كل محاولة لتشكيل حكومة جديدة. إضافة إلى ذلك، فإن سقوط بايرو لا يمكن قراءته بمعزل عن تراجع صورة الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه، إذ يراه الكثيرون عاجزا عن حماية فريقه أو توفير الاستقرار المؤسساتي المطلوب. فرئيس الوزراء في فرنسا يُعد في النهاية انعكاسا لاختيارات الرئيس، وبالتالي فإن سقوطه ينعكس مباشرة على مكانة ماكرون الذي يجد نفسه الآن أمام أزمة ثقة مضاعفة، سواء من داخل البرلمان أو من الشارع الفرنسي. ومن هنا يمكن القول إن الأزمة تجاوزت شخص بايرو لتطال رأس النظام برمّته. هذا المشهد السياسي المرتبك يفتح الباب أمام سيناريوهات خطيرة، فإما أن يغامر ماكرون بتعيين شخصية أكثر صدامية قد تواجه نفس المصير قريبا، أو أن يلجأ إلى انتخابات مبكرة قد تزيد المشهد تعقيدا بدل حله. وفي كلتا الحالتين، فإن ما جرى في الجمعية الوطنية يعكس بداية فصل جديد من الشلل المؤسساتي، حيث لم يعد النظام السياسي الفرنسي قادرا على تأمين الحد الأدنى من الاستقرار، الأمر الذي سيؤثر حتما على صورة فرنسا داخليا وخارجيا، ويجعلها تبدو دولة غارقة في أزماتها الخاصة.

 

عجز مالي متراكم منذ نصف قرن يطفو على السطح

تحسن عجز ميزانية فرنسا في النصف الأول من 2025 بفضل ارتفاع الإيرادات وتراجع  الإنفاق - Detafour

وإذا كان سقوط حكومة بايرو قد فجّر أزمة سياسية داخلية غير مسبوقة، فإن جوهر هذه الأزمة لا ينفصل عن الواقع الاقتصادي المأزوم الذي تعيشه فرنسا منذ عقود. فالمشهد البرلماني لم يكن سوى مرآة عاكسة لعمق المأساة المالية التي تضغط بثقلها على الدولة والمجتمع. وبقدر ما كشف التصويت على حجب الثقة عن انقسام سياسي، فقد أعاد إلى الواجهة الأرقام الصادمة التي لا يمكن إنكارها: دين عام بلغ مع نهاية الربع الأول من سنة 2025 حوالي 3415 مليار أورو، أي ما يعادل 114 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. هذه الأرقام وحدها تكفي لتوضيح أن الأزمة الاقتصادية ليست تفصيلا ثانويا، وإنما هي المحرك الأساسي لكل هذا الانهيار السياسي. العجز المستمر منذ 51 عاما تحول إلى قيد يحدّ من قدرة الحكومات الفرنسية على المناورة. فكل حكومة جديدة تجد نفسها مضطرة لفرض المزيد من الضرائب والتقشف لتغطية فجوة النفقات، وهو ما يزيد الاحتقان الاجتماعي ويفجّر السخط الشعبي. لذلك فإن الأزمة السياسية الحالية لا يمكن قراءتها بعيدا عن هذه الحلقة المفرغة التي تجعل من أي رئيس وزراء “ضحية محتملة” في مواجهة برلمان غاضب وشعب يزداد فقرا عاما بعد عام. الأمر الأخطر أن هذا العجز لم يعد شأنا داخليا فقط، وبات يضع فرنسا في موضع ضعف خارجيا. فـ”ستون في المئة من ديونها خارجية”، ما يعني أن القرار الاقتصادي الفرنسي مرتهن بشكل كبير للأسواق والمؤسسات المالية الدولية. وهذا الوضع يهدد استقلالية القرار الاقتصادي، ويفتح الباب أمام تدخلات غير مباشرة تمس سيادة فرنسا نفسها. وهنا يظهر التناقض الكبير: فرنسا التي طالما قدّمت نفسها كقوة مستقلة وسيّدة قرارها، تجد نفسها اليوم رهينة لمعادلات الدين الخارجي. ومع تراكم هذه الأعباء، أصبح من الواضح أن الاقتصاد الفرنسي لم يعد قادرا على توفير الاستقرار اللازم للنظام السياسي. فالأزمات المالية تغذي الانقسامات السياسية، والانقسامات السياسية تعمق الأزمة الاقتصادية، في دوامة تضع فرنسا أمام مأزق تاريخي حقيقي. وهذا ما يفسر أن سقوط حكومة بايرو لم يكن سوى الحلقة الأحدث في سلسلة طويلة من الفشل المتراكم، وأن الأزمة مرشحة للتفاقم مع أي محاولة جديدة لترميم نظام سياسي واقتصادي ينهار من الداخل.

 

الجمهورية الخامسة.. بين الشلل المؤسساتي والاحتقان الشعبي

Gouvernement renversé : la France plonge dans une nouvelle crise politique  - TRT Global

وإذا كان العجز المالي قد كشف عن حدود قدرة فرنسا الاقتصادية، فإن انعكاساته المباشرة برزت في شكل توترات اجتماعية متزايدة واحتقان شعبي لم يعد بالإمكان احتواؤه بالخطابات السياسية. فكل إجراء تقشفي جديد، وكل زيادة في الضرائب، كانت بمثابة صبّ الزيت على نار السخط الاجتماعي. ومع مرور الوقت، تحولت هذه الإجراءات إلى سبب جوهري في سقوط الحكومات، لتتحول المالية العمومية من ورقة تقنية إلى عامل سياسي يهدد استقرار الجمهورية الخامسة. الشلل المؤسساتي الذي تعيشه فرنسا اليوم، هو حصيلة تراكمات طويلة من السياسات التي أهملت البعد الاجتماعي. تقليص العطل الرسمية، خفض الدعم الاجتماعي، وتراجع قدرة الدولة على الاستجابة لمطالب المواطنين، كلها سياسات عمّقت الفجوة بين السلطة والشعب. في هذا السياق، يصبح سقوط الحكومات مجرد عرض جانبي لأزمة أعمق تضرب بنية النظام السياسي الفرنسي، وتؤكد أن المؤسسات لم تعد قادرة على لعب دورها كوسيط فعال بين الدولة والمجتمع. الاحتقان الشعبي ظهر جليا في السنوات الأخيرة عبر موجات متكررة من الاحتجاجات والإضرابات، من “السترات الصفراء” إلى التظاهرات ضد إصلاحات التقاعد والضرائب. هذه التحركات الاجتماعية، التي غالبا ما واجهتها السلطة بالقمع والعنف، أظهرت أن الشارع الفرنسي لم يعد يثق في وعود السلطة، وأن الهوة بين المواطن والدولة في اتساع مستمر. سقوط حكومة بايرو جاء إذن ليعكس هذا الغضب المتراكم، ويؤكد أن البرلمان لم يعد وحده من يرفض السياسات القائمة، بل الشارع أيضا. وهنا تتضح ملامح الأزمة المزدوجة التي تعيشها فرنسا: اقتصاد ينهار بفعل الديون والعجز، ومؤسسات سياسية عاجزة عن الاستجابة لمطالب شعب يزداد فقرا ويشعر بالتهميش. هذا التداخل بين الشلل المؤسساتي والاحتقان الاجتماعي يجعل الأزمة الفرنسية أكثر تعقيدا من مجرد تغيير حكومة أو تعديل ميزانية، بل هو تحد وجودي يضع النظام الجمهوري نفسه على المحك. ومن هنا، يبدو أن الجمهورية الخامسة تقترب من لحظة فارقة قد تحدد مستقبلها لعقود قادمة.

 

فرنسا القوية والواقع الهش.. التناقض الصريح

وبعد أن بات الشارع الفرنسي يغلي والمؤسسات السياسية تتهاوى تحت وطأة الأزمات، يطرح سؤال محوري نفسه: كيف يمكن لفرنسا التي تدّعي القوة والتأثير في الخارج أن تعيش هذا المستوى من الضعف في الداخل؟ إن التناقض بين صورة “الجمهورية القوية” التي تحاول باريس تصديرها للعالم وواقعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الهش صار أوضح من أي وقت مضى. سقوط حكومة بايرو كشف عن أزمة حكم، وفضح التباين الكبير بين الخطاب الخارجي المليء بالثقة والواقع الداخلي الغارق في أزمات بنيوية. هذا التناقض يظهر جليا في ممارسات فرنسا الدولية، فهي لا تتردد في تقديم نفسها كفاعل مركزي في الاتحاد الأوروبي وكصاحبة نفوذ في إفريقيا والشرق الأوسط، بينما داخليا تعجز حتى عن تثبيت حكومة لأشهر معدودة أو معالجة عجز مالي يلاحقها منذ أكثر من نصف قرن. كيف لدولة تُحاضر الآخرين في الديمقراطية والحوكمة الرشيدة أن تعجز عن تأمين استقرارها الداخلي أو إنصاف شعبها في أبسط حقوقه الاجتماعية؟ هذا السؤال بات يتردد بين خصوم فرنسا، وحتى في أوساط الرأي العام الأوروبي. إضافة إلى ذلك، فإن هشاشة الداخل بدأت تلقي بظلالها على السياسة الخارجية الفرنسية. فعندما تدرك الشعوب الإفريقية والعربية أن باريس عاجزة عن حل مشاكلها الداخلية، فإن خطابها المتعالي يفقد الكثير من مصداقيته. كيف يمكن لدولة مثقلة بالديون ومهددة بأزمات سياسية متلاحقة أن تقدم نفسها كمرجعية أو قوة عظمى؟ إن هذا الانكشاف يزيد من تراجع النفوذ الفرنسي في مناطق كانت تعد تقليديا ساحات نفوذها التاريخي. النتيجة أن فرنسا تجد نفسها اليوم أمام مأزق مزدوج: ضعف داخلي يفتك بشرعية حكوماتها ومؤسساتها، وانكشاف خارجي يضعف من قدرتها على التأثير في الملفات الدولية. وبين الداخل والخارج، يتكرس التناقض الذي يجعل فرنسا دولة تبدو قوية في المظهر لكنها هشة في الجوهر، ما ينذر بانحدار متسارع في مكانتها الإقليمية والدولية إذا لم تجد حلولا جذرية لأزماتها البنيوية.

 

مستقبل فرنسا السياسي والاقتصادي.. أزمة مزدوجة

Grève nationale massive en prévision : la France face à une crise sociale  et politique majeure – fildalgerie

وإذا كان التناقض بين خطاب القوة وواقع الضعف قد كشف عن انكشاف فرنسا أمام العالم، فإن السؤال الأعمق هو إلى أين يمكن أن يقود هذا المسار؟ الواضح أن فرنسا لم تعد تواجه أزمة عابرة مرتبطة بحكومة بعينها، بل أزمة مزدوجة تهدد مستقبلها السياسي والاقتصادي معا. فكلما سقطت حكومة جديدة، تعمّق الشك في استقرار النظام السياسي، وكلما تفاقم الدين العام، ازداد الشك في قدرة الاقتصاد الفرنسي على الصمود. هذا التلازم بين السياسي والاقتصادي يجعل الأزمة بنيوية لا يمكن معالجتها بترقيعات ظرفية. من الناحية السياسية، فإن سقوط حكومة بايرو قد يفتح الباب أمام سلسلة من السيناريوهات الصعبة: إما حكومات ضعيفة متتالية تعيش على وقع أزمات الثقة، أو انتخابات مبكرة تعكس مزيدا من الانقسام الحزبي، أو حتى تعديلات دستورية قد تهزّ أسس الجمهورية الخامسة. في جميع الحالات، فإن النظام السياسي الفرنسي يدخل مرحلة من عدم اليقين، وهو ما يضعف صورته داخليا ويقوّض مكانته كمرجع للديمقراطية في أوروبا والعالم. أما على الصعيد الاقتصادي، فإن استمرار تراكم الدين والعجز المالي سيجعل فرنسا أكثر ارتهانا للأسواق المالية العالمية وللمؤسسات الدولية. ومع بلوغ المديونية مستويات غير مسبوقة، تصبح الخيارات المتاحة للحكومات القادمة محدودة: إما فرض المزيد من التقشف الذي سيشعل الشارع من جديد، أو محاولة الاقتراض بشروط أكثر قسوة تزيد الوضع سوءا. وهذا يعني أن أي معالجة اقتصادية ستظل رهينة حلقة مفرغة من القرارات المؤلمة التي تغذي الاحتقان الشعبي وتضعف شرعية الحكومات. الاستنتاج الأبرز، أن فرنسا تواجه اليوم لحظة فارقة في تاريخها الحديث: إما أن تعترف بأن أزمتها مزدوجة وتبحث عن حلول جذرية تعيد التوازن بين السياسة والاقتصاد، أو أن تواصل الهروب إلى الأمام بخطابات القوة والصورة الزائفة، وهو ما سيعجّل بانحدارها إلى مصاف القوى الثانوية في أوروبا والعالم. سقوط حكومة بايرو لم يكن النهاية، بل قد يكون بداية فصل جديد من مسار الانهيار البطيء لفرنسا التي طالما ادّعت القوة بينما تنهار من الداخل.