التكنولوجيا الحديثة تكاد تغيّب وظيفتهم

سعاة البريد… شاهد من الماضي الجميل

سعاة البريد… شاهد من الماضي الجميل

ساعي البريد صديق الجميع، له عند الكثيرين مكانة خاصة، فأحيانا كانت رؤيته مرتبطة بأخبار من أحبة طال اشتياقنا لهم، ولكن ولأنّنا في عصر الأنترنت وكما فقدت الحياة الانسانية شاعريتها، فقد ساعي البريد الكثير ممّا كان يميز عمله في السابق.

صديق الجميع

وحول هذا الموضوع يقول ”عدلي” يعمل كساعي بريد منذ 1988، وسألته عن واقع مهنته اليوم فقال: ”منذ سنوات طويلة وأنا أعمل في هذه المهنة، تنقلت خلالها عبر مختلف أحياء العاصمة من باب الوادي، الأبيار، رويسو…أتذكّر تلك الأيام التي كنت أستعمل فيها النقل العمومي لأستطيع التنقل عبر كل تلك الأحياء، وكان علي بومنجل الحي الذي قضيت فيه 28 سنة من حياتي، كوّنت خلالها صداقات مع الجميع أساسها الثقة والاحترام المتبادل”.
وواصل حديثه قائلا: “لولا المرض وإصابتي بضعف في القلب لأكملت مسيرتي المهنية كساعي البريد لأنّني تعوّدت على الناس خاصة كبار السن الذين أعرفهم منذ كانوا شبابا، ما خلق ثقة كبيرة بيننا حتى أنّني صرت كأحد أفراد عائلاتهم، يستأمنونني على أسرارهم ومالهم”.
وخلص إلى القول إنّ ساعي البريد في الماضي كان صديقا للجميع، اليوم تغيّر الأمر ولم يبق شيء من ذلك، حتى الرسائل أصبحت اليوم أقل مما كانت عليه في السابق، لأن الكل يفضّل استعمال الأنترنت للتواصل أو الهاتف النقال، وحلّت الرسائل الإلكترونية مكان الرسالة التقليدية التي كانت وسيلة للتواصل من قبل.

عناوين ضائعة بين صناديق البريد وأصحابها غير موجودين
من جهته ”رشيد “، ساعي بريد يمارس نشاطه في العاصمة منذ أكثر من عشرين سنة، تحدث عن الصعوبات التي يواجهها زملاؤه في ميدان العمل: ”يعاني ساعي البريد الكثير من المشاكل التي تعرقل أداء مهمته اليومية بصفة عادية، أحدها غياب أو انعدام صندوق البريد على مستوى العمارات، وحتى إن وجدت تكون في حالة سيئة، ما قد يتسبّب في ضياعها. وما زاد الأمر سوءا هو تغيير المواطنين المستمر لمقر سكناهم ولا يعلنون بذلك للجهات الرسمية، ما يجعل مهمة ساعي البريد معقّدة، فيصعب عليه أداء مهامه على أكمل وجه”.
وواصل حديثه قائلا: “في الماضي كنّا نستعلم من البواب الذي كان يعرف كل شيء عن سكان العمارة، ولكن غيابه في يومنا هذا صعّب من مهمة ساعي البريد، نحن نتلقى الكثير من رسائل الوكالة العقارية ”عدل” ولكن في أغلب الأحيان نعيدها إلى مركز الإيداع دون إيجاد أصحابها، ويظل ساعي البريد يدور في حلقة مفرغة”.
وأضاف قائلا: ”مشكلة أخرى تقف أمام أداء ساعي البريد لمهنته بصفة طبيعية وهي غلق أبواب العمارات ما يمنعه من الدخول إليها لإيصال الرسائل إلى أصحابها، ورغم إخبارهم لا يتركون باب العمارة مفتوحا ويقولون إنه بإمكانهم إعطائنا نسخة عن المفتاح، وأنا كساعي بريد لا أستطيع تحمل مثل هذه المسؤولية إلى جانب أنني إن قبلت بذلك سأحمل ما يقارب الستمائة مفتاح في اليوم، وهذا مستحيل”.

 

تغير تركيبة المجتمع
ولن تنتهي المعاناة هنا لأن المجتمع تغيّرت تركيبته ومعاملاته التي كنا نعرفها من قبل، فحتى المواطن اليوم أصبح يتعامل مع ساعي البريد بفوقية عكس الماضي، ففي أحيان كثيرة عندما لا نجد اسم المرسل إليه على صناديق البريد، نحاول معرفة حقيقة سكنه من عدمه في العمارة، لذلك أطرق على باب أحدهم لأسأله، يفتح الباب ويرد عليّ بفظاظة ويطلب مني في الأخير عدم طرق بابه مجددا.
كما تشكل عدادات المياه التي ما تزال تحت تسمية مالكها الذي كان في العهد الاستعماري هاجسا آخرا أجبرت ساعي البريد على إعادة الكثير من فواتير الماء إلى مركز الإيداع لعدم وجود أصحابها الحقيقيين، ما خلق مشكلة أخرى مع شركة ”سيال” التي عليها تغيير ملكية عداد الماء إلى صاحبه الحقيقي حتى نتمكن من أداء مهمتنا على أكمل وجه.
أما الهم الأكبر الذي يؤرق يوميات ساعي البريد هي التصرفات غير المسؤولة التي تحمّله ذنبا لم يقترفه، وقال في هذا الصدد: ”يحدث أن نسلّم إشعارات لدفع فواتير الضرائب أو رسائل تأتي من مصالح إدارية كالمحاكم مثلا، فتؤدي إلى غضب أصحابها وإسقاط كل نرفزتهم علينا”.

من 150 ساعي بريد إلى 43 ساعيا فقط
أول ما تحدث عنه مسؤول بمركز توزيع البريد والايداع بحسيبة بن بوعلي، هي الكمية الكبيرة التي يتلقّاها المركز من البريد، ولكن لاحظ أن الرسائل التي يتبادلها الأشخاص والأقارب فيما بينهم تقلصت كثيرا وبشكل واضح، وفسر ذلك بغياب الثقافة البريدية التي كانت من قبل، فمثلا البطاقة البريدية اليوم تكاد تندثر وأكثر ما نرى ذلك ــ حسبه ــ في نهاية السنة، ففي السابق كان هناك الكثير ممن يرسلون تهاني السنة الجديدة عن طريق البريد بداية من منتصف شهر ديسمبر إلى غاية النصف الأول من جانفي، أما اليوم فهم يفضلون إرسالها عبر البريد الالكتروني، ولا نجدها حتى في المحلات التي كانت تبيعها. وربما اهتمامات الأفراد ليست كالسابق في زمن تغلبت فيه السرعة على كل شيء وسلبتنا في غفلة منا روح الحياة ومتعتها في التعامل مع الآخر.
وذكر في الأخير أن التغيرات التي عرفها المجتمع اليوم أثّرت حتى على عدد سعاة البريد، الذي كان في السابق يفوق الـ 150 ساعيا على مستوى العاصمة مقابل 43 موزعين على مختلف الأحياء الموجودة بين بورسعيد إلى ساحة أول ماي وتاقارا حتى بوقرة، وهي المقاطعة التي تخص هذا المركز.
ق. م