تقع مدينة سدراتة في ولاية سوق أهراس، ويحيط بها بلدية عين سلطان وخميسة والزوابي وسافل الويدان وبئر بوحوش وأم العظائم، وتبعد عن مدينة خميسة الأثرية بـ 14 كم، وتعتبر المدينة الثانية من حيث الكبر وعدد السكان بعد عاصمة الولاية سوق أهراس، ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر حوالي 1000 متر، أسستها فرنسا حوالي 1846 م.
تزخر منطقة سدراتة بمواقع أثرية تعود إلى فترات ما قبل التاريخ، كما تم الكشف عن أدوات حجرية بالمنطقة الممتدة جنوبها، وهي بذلك تعد دليلاً مادياً على أن الموقع كان معروفاً خلال فترة ما بعد العصر الحجري والعصر الحجري الحديث، غير أن هذا الموضوع ما يزال بحاجة إلى أبحاث ودراسات معمّقة للكشف عن استقرار العنصر البشري بهذا المكان، وأهم الصناعات المنجزة من طرفه، أما بالنسبة للعهد الروماني، فإنه يجهل الكثير عن أوضاع المنطقة خلال تلك الفترة على الرغم من أن هناك من يعتقد بوجود مخلفات رومانية شمال مدينة سدراتة.
والحقيقة أن هؤلاء لم يستقروا إطلاقاً بهذه المناطق، بل كانوا يجوبونها في شكل حملات قد يكون الهدف من ورائها جمع الضرائب من القبائل البربرية الموجودة هناك، والتي فضلت هجرة مواطنها الأصلية والاحتماء بهذه الأماكن هروباً من الغزو الروماني.
إن قلة الدراسات الأثرية والافتقار إلى المعطيات التاريخية حول مدينة سدراتة، جعلت بعض الباحثين يرجعون تأسيسها إلى بداية الفتح الإسلامي، ونجد في طليعة هؤلاء الباحث “جون ليتيو” الذي يرى أن المدينة بنيت في مطلع القرن 1هـ/ 7 م.
وفي هذا الصدد، يذكر ج. ليتيو نقلاً عن باستشري أن سبعة من المسلمين استقروا بجبل نفوسة، ثم اتجه اثنان منهم إلى وادي مية ولا يعرف هل قدما إلى الوادي كزائرين فقط أم كانت رغبتهما في الاستقرار هناك، خاصة أن المنطقة كانت تعرف بنشاطها التجاري المزدهر. ويضيف قائلاً: مهما يكن من أمر فعن طريق القوافل القادمة من زنجبار والسودان وصل في 7 رجب 39 هـ (658م) عبد الرزاق بن عبدان بن عبد الحق المولود بحضرموت وأسس مدينة أطلق عليها اسم (تيميمون).
وفي سنة 41 هـ ونتيجة لعدم الاستقرار بجبل نفوسة وصلت جماعات أخرى إلى وادي مية قاد إحداها أبو حفص عمروس بن فتح الغار، فقام هؤلاء الوافدون ببناء مسجد ثم شيّدت حوله الدور والمساكن، وبذلك ظهرت سدراتة للوجود كمدينة. ويرى فريق آخر أن تأسيس المدينة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنهاية الدولة الرستمية بتيهرت سنة 296 هـ – على أيدي الفاطميين، وهروب الناجين من بطش هؤلاء متجهين نحو الجنوب يقودهم الإمام يعقوب بن أفلح.
في هذا الموقع الحصين والمتميز بوفرة مياهه، وجدت تلك الجماعة المكان الملائم بها لتحمي نفسها ومذهبها ولو لفترة قصيرة من الزمن، إذ ما لبثت أن هاجرت عناصر منهم مدينة سدراتة إلى مكان آخر يبدو أنه أشد مناعة وأكثر أمانا من الأول، وهو ما يعرف بوادي ميزاب أو مدن الشبكة.
جبال سدراتة… شريط دفاعي يحيط بأغلب جهات المدينة

تتربع مدينة سدراتة على مساحة تقدر بحوالي 2 كلم2 في اتجاه شمال غرب – جنوب شرق، وتشغل مبانيها مجموعة من التلال يتراوح ارتفاعها ما بين 140,99م إلى 150,10م، يحيط بها من الجهة الجنوبية والجنوبية الغربية سلسلة من الجبال أو ما تعرف محليا باسم “قارة” أشهرها قارة كريمة وجبل العباد، وتعد هذه القارات والجبال بمنزلة شريط دفاعي يحيط بأغلب جهات المدينة، كما يعد بمنزلة ملاجئ يحتمي بها السكان من غارات الأعداء، نظراً لاستواء سطوحها وصعوبة مسالكها وارتفاعها الشامخ من جهة، واحتوائها على أهم عنصر الحياة وهو الماء مثلما كان بقارة كريمة.
إن هذه الميزات الطبيعية التي تتجلى بهذا الموقع، فضلاً عن وجوده في مفترق طرق القوافل التجارية، كانت من بين الأسباب الرئيسية المساعدة على استقرار مجموعات بشرية وظهور حضارة راقية ما تزال آثارها في سدراتة ماثلة للعيان.
سدراتة… مدينة خرجت من تحت الرمال

شكّلت مدينة سدراتة محور اهتمام عدد من الباحثين والرحّالة الأجانب منذ نهاية القرن 19م إلى يومنا هذا. وتمثل هذا الاهتمام في جوانب عدة منها البحث عن تاريخ نشأتها من خلال المصادر والروايات الشفوية المتداولة بالمنطقة، ومحاولة إجراء تنقيبات أثرية في أماكن مختلفة، وقد كان لهذه العمليات الأخيرة التي شهدتها سدراتة دور كبير في إخراجها إلى النور وإبراز أهميتها من الناحية الأثرية خاصة، لما أسفرت عنه من نتائج، رغم قلتها، فهي تعد جد مهمة مكنتنا من التزوّد والاطلاع على بعض الجوانب الخفية للمدينة، المعمارية منها والفنية.
والسبب في ندرة الدراسات حول مدينة سدراتة يكمن في موقعها الصعب المنال من جهة، وما يتطلبه من إمكانات مادية وبشرية جد ضخمة من جهة أخرى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الإهمال الذي عرفته المدينة طوال سنوات عدة أدى إلى إبقائها عرضة لمجموعة من العوامل تفعل بها ما تشاء، فالزوابع الرملية العنيفة التي غالباً ما تعرفها مناطق الجنوب خلال فصل الربيع، وما فتئت تزيد من زحف الرمال وعلو كثبانها وتغيير وضعيتها باستمرار.
علاوة على ذلك، فإن الزيارات المكثفة التي كان وما زال يقوم بها فئات مختلفة من المجتمع إلى أطلال المدينة عن قصد أو غير قصد، أضحت هي الأخرى خطراً يهدد معالمها.
كل هذه الأسباب أدت بطبيعة الحال إلى طمس جزء من منشآت المدينة أحياناً وكشف جزء آخر أحياناً، كما انجر عنها انهيار المباني المكتشفة بفعل التغيير الفجائي بين درجات الحرارة ووطأة المتجولين.
مسجد سدراتة.. لم ينصفه الباحثون وأنصفه الزمن

شهدت مدينة سدراتة عدة تنقيبات أثرية، إلا أن ما يؤخذ على البعض منها أنها لم تبلغ المستوى المطلوب من حيث التنظيم والمنهجية العلمية المتبعة في تقنيات الحفر.
فأكثر الباحثين الذين تعاقبوا على مدينة سدراتة لم يتعرضوا بطريقة علمية إلى مسجد المدينة، بل اكتفوا بالإشارة إليه بطريقة عرضية عابرة، ووصفوه وصفاً يكاد يكون سطحياً، وفي مقدمة هؤلاء الباحثين، نذكر “فكتور لارجو” الذي زار المدينة سنة 1877م، وتعرّف على أحد مساجدها وهو في حالة جيدة من الحفظ، ويقول لارجو بشأن هذا المبنى: “يوجد بجنوب المدينة المندثرة بقايا لمسجد مستطيل الشكل تبلغ مقاساته 23م 18 xم وينقسم إلى قسمين من جهة العرض، تقدر مقاسات الجزء الأول حوالي 10م، أما القسم الثاني فيبلغ 13م، وقد كان هذا الأخير مبلطاً ومرتفعاً نوعا ما عن الأول، ونلاحظ به بقايا أحواض محفورة في الأرض يتم تزويدها بالمياه بواسطة قناة تخرج من إحدى زوايا الجدار وهي في حالة جيدة”، كما عثر لارجو بهذا المبنى على جزء “الجص” تحليه زخارف نباتية تشبه الأرابيسك. أما “هارولد طاري”، الذي يعتبر أول باحث قام بحفرية حول أنقاض بعض المعالم من المدينة سنة1881م، فقد استطاع، حسب قوله، أن يزيل التراب عن كامل المحيط الداخلي للمسجد، كما يشير طاري إلى أن المسجد كان يحتوي على مدرسة قرآنية تحليها زخارف كتابية هي الأخرى، ويصف بول بلانشي (1898م) المسجد بأنه قاعة مربعة الشكل مغطاة بحوالي عشرين قبوا تقوم على ست عشرة دعامة، زينت جدرانه بأبواب وهمية ونوافذ تحلي أطرها زخارف هندسية بسيطة.
وتعتبر الحفرية التي قام بها المهندس فوشير، ما بين 1943م و1944م، من أهم التنقيبات التي جرت حول المسجد، فلقد استطاع هذا الباحث إزاحة الرمال عن محيطه، باستثناء الزاوية الجنوبية للمبنى، حيث تمكن من الوصول إلى أرضية قاعة صغيرة يبلغ ارتفاعها حوالي 4,43م ومغطاة بقبو، ولقد وضع فوشير مخططاً ورسوماً توضيحية لهذا المعلم، لكن هذه الوثائق لم تنشر بل بقيت حبيسة الأدراج.
المباني المدنية.. القليلة المهمة في سدراتة

تنحصر المباني المدنية بمدينة سدراتة في البيوت العامة والخاصة التي أشار إليها الرحالة أو المكتشفة أثناء عمليات التنقيب، وعلى الرغم من قلتها فإنها تعتبر مهمة، حيث تقدم لنا صورة تكاد تكون كافية عن العمارة المدنية بالمدينة، كما تقدم لنا نماذج حية من العناصر المعمارية التي استعملها البناء السدراتي في مبانيه.
ويعتبر “فكتور لارجو” أول من أشار إلى هذه البيوت دون تحديد مواقعها، ويذكر في هذا الصدد أن البيوت الكبيرة لمدينة سدراتة ذات شكل مربع وغير منتظمة التخطيط، وهي تتكون من قسمين متقابلين يفصلهما صحن، أحدهما عبارة عن رواق يتكون من فتحات ذات أقواس نصف دائرية وترتكز على دعامات مربعة الشكل. كما لاحظ لارجو بيتاً آخر مربعاً يبلغ طول أضلاعه في جميع الاتجاهات 9م، وبيوتاً أخرى يساوي طولها نفس المقاس السابق، وتتكون من غرفة واحدة يتقدمها صحن مغلق، أما بالنسبة للبيوت بصفة عامة فهي تتكون من غرفة واحدة تقدر مقاساتها ما بين 6 و7 أمتار، ويلاحظ أن غالبية هذه البيوت كانت جدرانها مكسوّة بطبقة صلبة من الجص، كما تم العثور على مجموعة من البيوت دون الإشارة إلى مكان وجودها.
ل. ب











