الغاية في هذه الحياة للمؤمن أن يصل إلى رضا ربه، ولهذا يحرص على أن يغرس بذرةً تُنبت ثمار الذكر الحسن، فيفخر به من يأتي بعده من نسله بعد رحيله، ويشعرون بالرغبة في السير على طريقه، وهذه البذرة الحسنة يؤكدها الدين الإسلامي حتى آخر لحظة في الحياة: “إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة، فليغرسها”، في هذا الحديث النبوي تمثِّل الفسيلة المفهوم العام للأعمال الحسنة، فكل نبتٍ يفيد الناس احرص على غرسه قبل الفراق وقبل الرحيل. إن الانشغال بتطبيق مفهوم غرس الحسنات وغرس المنافع، يجعل الإنسان يتعامل مع الموت على أنه محطةُ راحةٍ ومحطة التقاءٍ بمن سبق من الأحبة، ومحطة استعداد للعرض على ربٍّ رأى من رحماته ما لا يسعه العد على حصرها. إن مفهوم غرس الحسنات يتحقق ويتأتَّى من خلال الحرص على الوقت واستثماره بالعمل، ففي ديننا أن الغبن يكون في الفراغ؛ قال عليه الصلاة والسلام: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”.
أما الاستسلام للدعة والفراغ، فهو موطنٌ ينتشر فيه داءُ القلق والهم، وتصبح الأمور تكبر في عين هذا المستسلم للفراغ، فلا تراه إلا في صورة الجماد المتحرك جسدًا فقط، فهو في موات مع أن قلبه ينبض وحواسه كلها تتحرك، لا يعرف إلا الكآبة واليأس والخوف والهم، تستولي هذه الجيوش على قلبه وتسيطر على عقله، فتسجنه في محبسٍ مظلم مع أن الله سخَّر له الأكوان، وأهدى له فرصةَ الحياة؛ ليستمتع بطيِّباتها ويمتنع عن محرَّماتها، وينتظر دوره في ركوب قطار الموت؛ ليصل إلى محطة البرزخ، وبعدها تكون جنة بإذن الله وفضله، إنَّ الموت بهذا المفهوم يصبح راحةً، بل يجعلك تفقه لماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: “بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى”، وكذلك قول من اتبعه عندما اقترب موته فقال: غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه، نعم الموت يصبح هو السبيل للقاء بربِّ الأكوان وبالأحباب الذين مضوا وما زال القلب يخفق شوقًا إليهم، بهذا نفهم الموت ويخف قلقنا من هجمته، ومفتاح الفهم هو كثرة الزاد لما بعده، فهنيئًا لمن كثُر زادُه، وعمِل لما بعد الموت.