-
أجواء تجمع بين العبادة والمتعة والترفيه
يحافظ الجزائريون على “ريحة رمضان”، فيخلقون من عادات استقبالهم الشهر الكريم طقوسا احتفائية يُعظمون من خلالها “شعائر الله”، فعلى مر السنين ورغم الظروف الصعبة التي مروا بها، إلا أن العادات والتقاليد الرمضانية ظلت ثابتة فهي من صميم التراث وعمق الهوية الجزائرية.
تحرص العائلات الجزائرية على ممارسة عادات وتقاليد خاصة باستقبال شهر رمضان تمثل نسيجه الاجتماعي وتعكس زخم التنوع الثقافي لمختلف مناطق الوطن. وبالإضافة إلى الجانب الروحي للشهر الفضيل ومظاهر التكافل والتضامن التي تطبعه، هناك عادات تضفي نكهة خاصة لهذا الضيف العزيز وتميزه عن باقي الشهور. ويحل رمضان هذا العام، في ظل ظروف اقتصادية صعبة بسبب الارتفاع الجنوني للأسعار، لذا تغيرت بعض سلوكيات تجهيز البيوت، وهو ما ينعكس أيضاً على عادات السهر الرمضانية، ورغم ذلك، تظلّ العائلات متشوقة للشهر الفضيل كضيف عزيز يجلِب معه الرّزق.
حنين سكان القصبة العتيقة لجو متميز واستثنائي
ينتاب سكان حي القصبة العتيق بالعاصمة الذي يتميز بعادات وتقاليد خاصة خلال شهر رمضان الفضيل في عصرنا هذا الحنين الى أجواء متميزة واستثنائية يلتزم البعض منهم بالحفاظ على جوانبها.
وتعتبر “خالتي فاطمة” المولودة بهذا الحي، جزءا من هذه الذاكرة الجماعية لهذه المدينة المصنفة ضمن التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، حيث عاشت مآسي حرب التحرير وفرحة الاستقلال. وإلى يومنا هذا، تحمل “خالتي فاطمة” في جعبتها ماضي حافل بالمعتقدات والتقاليد صنعت هوية سكان الحي العتيق على غرار تلك المتعلقة بشهر رمضان الذي يعتبر مناسبة “يرتقب حلولها على أحر من جمر حيث كان يمكن ادراك قدوم هذا الشهر المبارك عدة أسابيع من قبل من خلال مختلف التحضيرات والاستعدادات بدءا من الترحيب بهذه المناسبة في محيط نظيف مثل دهن المباني وتبييضها من الداخل وكذا الدويرات (المنازل التقليدية) للمدينة العتيقة، حسب قولها. وتتم هذه المهمة، بشكل جماعي وفي جو بهيج مثلما هو الشأن بالنسبة لتحضير المكونات والتوابل المشكلة للأطباق الخاصة بهذا الشهر الفضيل بما في ذلك تجفيف الطماطم وتقشير الثوم وتحضير الكسكس. وغالبًا ما يكون سطح المنزل بمثابة فضاء تلتقي فيه النسوة للقيام بهذه المهام. وتروي هذه الجدة، كيف كانت تستعمل الحمير في الأزقة الضيقة بحيها لنقل كميات الجير والفحم المستعملين لتحضير طبق “الشوربة” الأساسي وأطباق مميزة أخرى خاصة بهذا الشهر. وتعمل “خالتي فاطمة” على تكريس بعض عادات الماضي مثل إعداد الكعك الذي يزين أمسيات رمضان مثل “المقروط ” و”الصامصا” بالعسل وكذلك “حلوة الطابع” التي تُقدم في غالب الأحيان يومي العيد. في هذا الصدد، قالت كريمة واحدة من قاطنات حي القصبة “أتذكر أنه تحسبا لهذا الشهر الكريم كانت تغمرني فرحة شديدة عندما أقوم بدهن الدويرة التي كنا نسكن بها بمادة البرنيق الذي حل محل الجير في الماضي”. وعلى الرغم من صغر سنها, تحاول كريمة قدر الإمكان الحفاظ على بعض “العادات الجيدة” على مائدة “الإفطار” ، بما في ذلك سلطة الفلفل الحار المشوي و” اللحم الحلو” وخبز العجين المخمر. تضاف الى ذلك, السهرات النسائية على الأسطح حول موائد الشاي تتخللها “البوقالات” والقصص المتنوعة والمدائح الدينية والحديث عن التراث العاصمي والقرع على “الدربوكة” التي تضفي جوا من الفرح عند الفتيات الصغار. أما عندما يصوم الطفل لأول مرة فإن هذا “الحدث” يتميز بتحضير “الشربات” من عصير الليمون لكسر الصوم عند وقت “الإفطار” فوق سطح المنزل.
سهرات رمضانية مطولة
صرح لونيس آيت عودية، رئيس جمعية “أصدقاء منحدر لوني أرزقي” أن “سكان القصبة” ينتابهم اليوم الحنين بشكل كبير الى الأمسيات الطويلة في المقاهي أين كانوا يمضون وقتهم في لعب الدومينو وسط حلويات “قلب اللوز” والشاي بالنعناع وهم يستمعون بنغمات أغنية الشعبي التي تؤديها فرق مشهورة.
كما أضاف يقول، “أستذكر سهرات امحمد العنقى وحاج مريزق في مقهى “مالاكوف” الذي يعتبر بمثابة تراث حقيقي للقصبة والذي يجب تحويله إلى متحف. ويساهم هذا الشغف بالثقافة والتاريخ من خلال مقالات صحفية “في الحفاظ على الذاكرة الجماعية” لهذا الحي داعيا إلى “تشبع الجيل الجديد بعادات الأجداد والأباء التي ينقلها الشهر الفضيل”. غير أن ما يميز طفولته، هو أن كل عائلة من القصبة كانت تخصص “مائدة” للمحتاجين وعابري السبيل عند مدخل كل بيت لتقديم لهم وجبة “الإفطار” حسب قوله، مشيدا بالحرفي حميد بلوط، ابن حي القصبة وصانع “قلب اللوز” المشهور الذي يحمل اسمه والذي لا مثيل له على مستوى العاصمة. وإذ لا يزال سكان القصبة يحافظون على شيم الكرم والتضامن حسب الوضع الاجتماعي لكل فرد منهم فقد أكد البعض أن هذه الأعمال النبيلة كانت “أكثر انتشارا في الماضي وتعكس العفوية التي كانت تميز تلك الفترة مما يضفي على شهر رمضان الكريم الإحساس العميق بالإيمان والروحانية التي تصنع جوهره.
رمضان وهران.. العبق الذي لن تجده في مكان آخر
تبادر العائلات الوهرانية في اليوم الأول من رمضان بإعداد العديد من الأطباق الشهية وطهي أجمل المأكولات التي تتنوع من عائلة لأخرى حسب حاجات الأسرة وعدد أفرادها.
إلى جانب الكيفية التي تقدم الوجبة بها وتركيبتها. إلا أن الجميع يتفق على إعداد طبق البرقوق الحلو لجعل أيام رمضان كلها حلوة والذي تتنافس فيه العائلات في تحضيره، بين لحم الخروف والدجاج، وتزينه بحبات اللوز والجوز والزبيب وهي واحدة من العادات التي تزخر بها العائلات الوهرانية والمستمدة من الأجداد، إلى جانب ذلك يتم طهي طيلة الشهر “المعقودة” والحريرة التي تعطي عبقا آخر ورائحة زكية تتسرب في جميع أركان البيت. ويتم تناولها مباشرة بعد الآذان بعد تناول التمر والحليب. وفي هذا الصدد تقول خالتي فاطمة التي لها بصمة لذيذة في تحضير الوجبات الافطار أنها قضت وقتا طويلا تنتقل فيه من محل لآخر بسوق المدينة الجديدة من أجل اختيار التوابل والبهارات الزكية لإعداد طبق الحريرة والبرقوق وبشق الأنفس عثرت على ما كانت تريده .لتحضر لأفراد العائلة تلك الاطباق قبل أن ينطلقوا في السهرة.
الشاي والشامية سيدان السهرة الرمضانية لدى الوهرانيين
بعد تناول وجبة الإفطار التي تكون غنية ومتنوعة تقوم ربات البيت بغسل أوان الفطور وتنظيف البيت والمطبخ ليتم الانطلاق بعدها مباشرة في التحضير للسهرة وإعداد الشاي والقهوة ولكل واحد من أفراد العائلة اختياره.
إلا أنهم لا يختلفون في تناول “حلوة الشامية” التي يتفنن الباعة فيها وفي تحضيرها بماء الزهر وغيرها من المركبات إلى جانب وضع فيها العسل والجوز وتريح عند تناولها المعدة من الزيوت والدهون والمشروبات الغازية. وتنطلق السهرة التي تستمر إلى وقت متأخر من الليل بعد أداء صلاة التراويح أين يجتمع أفراد العائلة حول مائدة الشاي والقهوة وتنطلق السهرة في الحكايات ومع المسلسلات وغيرها وهناك من العائلات من تفضل زيارة الأهل والمرضى والجيران والبقاء خارج البيت ولكل واحد توجهه الخاص به.
وجبة المسفوف بالعسل لا تفارق الوهرانين عند السحور
تفضل الكثير من العائلات الوهرانية تناول المسفوف وهو نوع من الكسكسي الرقيق يتم وضع فيه العسل واللوز وهناك من يتناوله باللبن، كوجبة خفيفة تمكن الصائم للصبر ليوم آخر من الصيام، دون جوع كبير وهي التقاليد التي لا تزال تلتزم بها العائلات الوهرانية منذ سنوات.
رمضان في بشار.. عادات تعكس فرحة سكان المنطقة بالضيف العزيز
يعد شهر رمضان المعظم بولاية بشار، فرصة لسكانه لترسيخ وديمومة تقاليد الأجداد في التضامن والكرم.
وتحافظ عائلات هذه المنطقة من الجنوب الغربي للوطن، على العادات القديمة والأعراف من بينها إحياء ليلة منتصف شهر رمضان المعروفة باسم “الفضيلة” التي من خلالها تحرص العائلات المتشبثة بعاداتها من جيل إلى جيل على أن تكون هذه الليلة على غرار ليلة القدر المباركة مختلفة عن الأيام الأخرى من الشهر الفضيل. ومن مظاهر الاحتفال باليوم الخامس عشر (15) من الشهر المبارك، إحياء عادة “الوزيعة”، حيث يتم نحر ذبيحة وتقاسم لحومها بالتساوي بين عديد العائلات ممن شاركت في شرائها من أجل إحياء ليلة منتصف رمضان، وكذا من أجل إبراز واحدة من عادات التضامن فيما بينهم ونحو العائلات المحتاجة الأخرى التي تتسلم حصة كبيرة من اللحوم. وبالرغم من أن هذه العادة أصبحت نادرة ببعض المناطق الحضرية بالولاية نتيجة تحسن الدخل المالي للأسر، إلا أنها تبقى إلى اليوم متجذرة في أوساط سكان القصور والمناطق الريفية، وذلك لعديد العوامل الاجتماعية والثقافية، وفقا لما أوضحه مختصون محليون في علم النفس.
مشاركة الأطباق لتعزيز روابط الجوار
كما تواصل العائلات، تقاسم ومشاركة الأطباق والأكلات فيما بينها كوسيلة لتعزيز روابط الجوار خلال هذا الشهر المبارك الذي يتميز كذلك بعديد عمليات التضامن من طرف الجمعيات والأفراد الذين لا يتوانون في تقديم وجبات ساخنة للمحتاجين والمسافرين العابرين للمنطقة، وذلك عن طريق شبكة تضم حوالي 20 مطعم “عابر سبيل”.
ويتم يوميا تقديم أزيد من 1400 وجبة خلال وقت الإفطار عن طريق هذه المطاعم الممول عدد كبير منها من طرف محسنين كرمز للتضامن مع الفئات المحتاجة، وذلك وفقا لتعاليم الإسلام، كما يؤكد شباب مكلفون بمتابعة الخدمات على مستوى هذه الفضاءات التضامنية الموزعة عبر الجهات الأربع لمدينة بشار. وعلى غرار مختلف مناطق الوطن، تشهد المساجد بهذه المدينة، إقبالا قياسيا للمصلين خلال هذا الشهر الفضيل، خاصة وأنهم حرموا منها السنة الماضية، حيث وإلى جانب أداء الصلوات الخمس، تجدهم حريصين على إقامة صلاة التراويح يوميا.
تطور حضري وإرث تقليدي
لم يؤثر التطور الحضري والتمدن اللذين عرفتهما منطقة بشار على عادات وتقاليد المنطقة في مجال الطبخ خلال شهر رمضان المبارك الذي يعد أيضا، فرصة لإحياء عديد الأطباق والأكلات التقليدية على غرار الحريرة (حساء القمح أو الشعير المسحوق) وطاجين الملوخية، وكذا أكلات ذات مذاق سكري باللحوم الحمراء أو البيضاء، بالإضافة إلى أنواع متعددة من الحلويات المقدمة مع الشاي والنعناع.
كما أن شهر رمضان، هو الشهر الذي تنتعش فيه كذلك أسواق الفواكه والخضر بالمدينة طوال النهار ويميزه أيضا الإقبال الكبير على المقاهي بعد الانتهاء من أداء صلاة التراويح لتناول مختلف المشروبات ومتابعة الأخبار والتطرق إلى انشغالاتهم اليومية قبل الذهاب بعدها لتناول السفة (كسكس رفيع مزين) مع الشاي أو القهوة أو الحليب مثلما جرت عليه العادة بالمنطقة. ودائما بعد أداء صلاة التراويح، تتوجه العائلات خلال سهرات الأسبوع الأخير من شهر رمضان المعظم إلى مختلف أسواق الملابس من أجل اقتناء ملابس جديدة لأطفالها، حيث تسوق بتخفيضات مغرية عبر المراكز التجارية المتخصصة. وفي هذا السياق أكدت بعض النسوة أن من عادات رمضان بولاية بشار إدخال عادات جديدة سواء من حيث الطبخ أو الديكور المنزلي والسهرات مع العائلة والأحباب، حيث تقول السيدة _فتيحةس إن زوجها قام مع زميله بشراء خروف وذبحه استعدادا للصيام حتى لا يكون مجبرا على الذهاب يوميا الى الجزار لشراء اللحم الذي يرتفع ثمنه في الشهر الكريم. أما السيدة _حيزيةس فقالت إن العائلات البشارية أصبحت تقبل على شراء الجدي أو الخروف أو ما يعرف بالتويزة لتفادي الوقوع فريسة سهلة لبائعي اللحوم، كما أدخلت عادات جديدة في الطبخ البشاري على غرار بعض الأكلات التي تشتهر بها ولايات الشرق الجزائري والتي تعد دخيلة على مائدة الجنوب الغربي خاصة بلدية بشار، لتضيف الأستاذة “نصيرة” أن أفراد عائلتها يستعدون للشهر الكريم بتنظيف المنزل وتغيير ديكوره إضافة إلى تحضير “الحريرة” و”المرمز” المصنوع من حبات القمح. ولا تختلف يوميات شهر رمضان الكريم في ولاية بشار كثيرا عن مثيلاتها في باقي ولايات الوطن، مع بقاء اللمسة المحلية المعروفة في بعض الطقوس والعادات المحلية التي توارثتها الأجيال أو فرضها الواقع الاجتماعي الموجود، ما يضفي على حياة الناس نوعا من الخصوصية.
روائح الشهر الفضيل تفوح من البيوت القسنطينية
المتجول في المدينة القديمة لقسنطينة، يعيش أجواء خاصة لرمضان، حيث تنتشر روائح الأكلات التقليدية والحلويات التي تشتهر بها المدينة، على غرار “الصامصا” و”الزلابية” التي تزين مختلف الأزقة وشوارع السويقة، رحبة الصوف، البطحة وسوق العاصر، ويجد المتسوق متعة في اقتناء حوائجه، انطلاقا من شراء اللحوم الحمراء من محلات الجزارة بالسويقة، أو الجزارين على مقربة من سوق العاصر الذي يكون محطة إلزامية، كونه يضم مختلف طاولات بيع الخضر والفواكه، وغير بعيد عنه، يجد أي متسوق ضالته في اقتناء خطفة “البوراك” من رحبة الصوف، وكذا بعض العجائن التي تستعمل في أطباق الإفطار.
هذا وتجتمع في العادات التي تميز أغلب الأسر الجزائرية كإعداد طبق الشربة أو الجاري كما يطلق عليه لدى العائلات القسنطينية، ويحضر غالبا بالفريك التي يتم جلبه مبكرا من طرف ربات البيوت من أجل تجفيفه وتمليحه بغرض استعماله خلال الشهر الكريم إلى جانب طبق البوراك الرئيسي في رمضان أو “البريك” كما يحلو للقسنطينيين إطلاقه عليه فلا تكد تخلو أي بيت جزائرية منه ومثلها العائلات القسنطينية، وعادة ما يتم تحضيره باللحم المفروم والمعدنوس والبطاطا والبصل لتفقس عليه بيضة ثم يتم قليه وتقديمه ساخنا في وجبة الإفطار.
الحلويات المشرقية.. سيدة سهرات قسنطينة
كما تشيع في قسنطينة تجارة الحلويات المشرقية والشامية وفي مقدمتها “حلوى الترك” و”النوڤا” وغيرها من المُقبلات، تلك الحلويات التي تتسع رقعة عرضها على مستوى محلات وطاولات البيع في رمضان وتعرف إقبالا متزايدا من طرف القسنطينيين لتجتمع عليها العائلات في السهر وهي تتصدر المائدة وسط الشاي ومختلف العصائر.
أما ما يطبع السهرة فهو صلاة التراويح والتوافد الكبير للمصلين على المساجد الكبرى بقسنطينة كما يكثر التصدق على العائلات الفقيرة في إطار التراحم الذي يتطلبه الشهر الكريم وهكذا دواليك إلى غاية مفارقة الضيف العزيز. ولا ينكر الكثيرون افتقاد العائلات القسنطينية مع مرور السنين، الكثير من العادات والتقاليد التي كانت تصاحب يوميات رمضان. ومن العادات التي افتقدتها شوارع المدينة جولات “بوطبيلة” الليلية، وهو شخص يطوف الشوارع والأزقة منبِّهاً الناس إلى وقت السحور، وهو مثل المسحراتي المعروف في المشرق العربي.. “بوطبيلة” كان يجول الأزقة القديمة منادياً أهل الحي الواحد تلو الآخر، كونه ابن الحي، حيث ينادي باسم صاحب المنزل قائلا “نوض تتسحر يا فلان” كما كان يستعمل الدفَّ خلال مناداته، ومقابل خدماته تلك تقدم له الحلويات. هذه الشخصية التي يتذكرها أجدادُنا وآباؤُنا، افتقدتها شوارع وأزقة مدينة الجسور المعلقة وأصبحت من الماضي والتراث المعنوي المفقود، شأنها شأن بعض الأكلات الشعبية التي كانت تميز شهر رمضان بقسنطينة على غرار أكلة المسفوف التي كان يحتضنها كل بيت قسنطيني عند السحور، وهو عبارة عن كسكسي مدهون بالزبدة يُضاف إليه الزبيب والسكر، كما غابت حلوى “النوڤة” أيضا عن المائدة القسنطينية تاركة مكانها لحلوى “الجوزية” التي يقتصر استهلاكُها على أصحاب الدخل الجيد فقط نظراً لغلائها، على عكس “النوڤة” التي كانت تميز محلات بيع الحلويات بكل من السويقة، رحبة الصوف، الرصيف، الجزارين وغيرها من أحياء قسنطينة العريقة.
“سوق العاصر”… قبلة “الڤليل”
يحتفظ عدد كبير من القسنطينيين، خاصة من سكان المدينة القديمة وما جاورها من أحياء، بعادة التسوق إلى سوق العاصر، الذي يعد من أقدم الأسواق بشرق البلاد، إن لم نقل في الجزائر، حيث عهد أهل المدينة على قضاء كل أمورهم فيما يخص الخضر والفواكه وحتى السمك من هذا التجمع التجاري، الذي يعرض السلع بأسعار مقبولة، وبات يصارع البقاء في ظل المنافسة الشرسة وانتشار عدد كبير من الأسواق الأخرى.
“سوق العاصر” بقسنطينة، أو كما يطلق عليه قبلة “الڤليل” والمساكين، يشهد انتعاشا ملحوظا في شهر رمضان، خاصة أن المتسوقين، وحتى ربات البيوت، يفضلن التسوق من هذا التجمع التجاري على الطريقة التقليدية، حيث يكثر الصياح من طرف الباعة الذين يشهرون لسلعهم عن طريق رفع الصوت مع ذكر الأسعار المغرية، جلبا للزبائن. ويحظى سوق العاصر الذي يقع على بعد أمتار من جسر سيدي مسيد، داخل المدينة القديمة، بقيمة كبيرة عند القسنطينيين الذين يحرسون على استنشاق عبق المدينة القديمة من هذا المكان، الذي كان مكانا للتسوق، وحتى مكانا للدراسة في وقت سابق، كونه يضم جامع الكتانية الذي يحوي عددا من قبور القادة والمسؤولين العثمانيين الذين حكموا المدينة، ودرس به عدد كبير من طلبة جمعية العلماء المسلمين، وأبرزهم الرئيس الراحل هواري بومدين. وسوق العاصر بقسنطينة، الذي فقد بريقه في السنوات الأخيرة، بسبب إهمال السلطات البلدية في ترميم ما يمكن ترميمه من جهة، ومن جهة أخرى ترحيل عدد كبير من سكان المدينة القديمة، مع توقف المصعد الهوائي عن العمل، حيث كان يساهم في نقل عدد كبير من سكان المنطقة الشمالية لقسنطينة، على غرار جبل الوحش، الزيادية والأمير عبد القادر، يشهد حركية كبيرة خلال شهر رمضان، حيث يقصده المتسوقون حتى من المدينة الجديدة علي منجلي، من السكان السابقين للمدينة القديمة، الذين تم ترحيلهم في إطار القضاء على السكن الهش، حيث يحرص هؤلاء الزبائن على زيارة السوق ولو مرة في الأسبوع، من أجل التبضع من جهة، واسترجاع الذكريات الجملية، من جهة أخرى. ورغم رحيل أكثر من ثلثي التجار من هذا السوق الشعبي الذي يقع بساحة بوهالي السعيد، إلا أن سوق العاصر بقسنطينة الذي يعود إلى الحقبة الاستعمارية، يصارع البقاء ويستقطب عددا كبيرا من الزوار، خاصة في المناسبات، على غرار شهر رمضان الكريم، فمنهم من يقصده لشراء الخضر والفواكه وحتى الأقمشة والأفرشة، ومنهم من يزوره فقط ليشم رائحة الماضي الجميل، لهذا المكان الذي يتوسط عددا من الأحياء القديمة، وجاء ذكره في العديد من الأغاني، خاصة “المالوف”.